عبده الأسمري
في صوته «لذة» المعنى وفي نبرته «ملذة» التعتناء».. شخصيته «غيمة بشرية» أمطرت بالتلاوة فأحيت النفوس بالإمتاع وظاهرة صوتيه سطّرت «الترتيل» فأشبعت العقول بالإبداع..
قضى وقته خادماً للقرآن وأمضى حياته في محاريب «السمو» الديني فحصد «السبق» في الأفئدة ورصد «العبق» في الأسماع فظل منبعاً صوتياً ونبعاً مهنياً يعطِّر الأذان بجمال القرآن الكريم وكمال الذكر الحكيم.
إنه إمام الحرم المدني الشريف القارئ الشهير الشيخ الدكتور محمد أيوب -رحمه الله- أحد أبرز قراء القرآن وأمهر المرتلين وأشهر مزامير «الحق».
بوجه حنطي تتعالى فيه السكينة مع ملامح تتوارد منها الطمأنينة ومحيا وقور يتكامل مع لحية كساها الشيب وعينان نضاختان بالسمت والوقار مع نظرات تتوشّح الزهد وصوت جهوري مسجوع بلحن فريد ومتن سديد ولسان قويم مشفوع بفصل الخطاب ولغة فصيحة في مجالس الذكر ولحن سماوي مقترن بالقراءة الحجازية والمقام المكي أمضى محمد أيوب عقوداً من عمره وهو يملأ مواقع الإمامة بصوته الشجي الأخاذ المنفرد بترتيل عجيب يكاد يرى بالبصر وتلحين مهيب تتقاطر منه مقامات الامتثال ومقومات المثالية في محافل قيادة صفوف المصلين ومنصات الحفظ والتلاوة والتدريس لآيات القرآن وسور الفرقان.
في مكة التي تعتقت فيها أنفاسه بطهر زمزم وطهور جنباتها وسكنت نفسه إلى مهر «مكانتها» ولد ونِشأ مخطوفاً إلى قبلة «المسجد الحرام» مولياً وجهه نحو صلوات اعتمرت قلبه صغيراً حينما كان يذهب مع أقاربه ليرسم مشاهد المستقبل من صحن الطواف ويكتب أمنيات الغد من منعطف الحطيم..
كان أيوب يراقب «الضيافة» المكية وأحاديث المساء في ردهات منزل أسرته الذي كان مقراً للضيوف واستقراراً لعابري السبيل ومقصداً لعشيرته الأولين ومنشداً لأصدقائه المقرّبين فتربى في كنف «قضاء الحاجات» وكبر وفي قلبه «مواويل الدعاء» و»تفاصيل الثناء» منذ أن كان طفلاً يترقب توجيهات والده وأمنيات والدته متسلحاً بدموع «فرح» كانتا عناوين لوالدين كريمين علماه ماهية «النجاح» سراً وعلناً.
ركض أيوب مطلقاً لساقيه العنان إلى حيث تستقر به دوماً قرابة جامع بن لادن ليأوي إلى «ركن شديد» معلناً إيقاف قافلة الطفولة على أعتاب بيوت الله مستلهماً «البشرى» ليقضي جل يومه سابحاً في ملكوت «الآيات القرآنية» سائحاً في آفاق الروحانية مدرباً لسانه باكراً على التجويد والجودة باحثاً عن معلمين يرشدونه إلى سبيل الرشاد.
تأثر أيوب برونق المقام في تلاوة زكي داغستاني وتأنق المفردة في قراءة خليل قارئ وتموسق اللحن في أداء علي الحذيفي فاستمر باحثاً عن السر الأول والمؤشر الأخير لمواهب الذات ومهارات الروح فظل ينفذ بروفات تراتيل فاخرة كانت تنتهي بقبلتي «بر» و»رضا» على جبين والديه. ارتبط أيوب بالقرآن مبكراً، حيث حفظه عام 1385هـ، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1386هـ، ثم انتقل إلى المدينة المنورة ودرس المرحلتين المتوسطة والثانوية في معهد المدينة العلمي، وتخرّج عام 1392هـ. والتحق بالجامعة الإسلامية وتخرّج من كلية الشريعة عام 1396هـ، ونال درجة الماجستير، ثم حصل على الدكتوراه عام 1408هـ.
رافق أيوب العلماء ودرس على أيدي جهابذة العلم الشرعي بالمدينة وقرأ على أيديهم متون العلم في القرآن الفقه والتفسير وشتى علوم الشريعة وعمل بعد تخرّجه معيدًا بكلية القرآن ثم أستاذاً في قسم التفسير وعضواً في اللجنة العلمية بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. وعمل إماماً متعاوناً في المسجد النبوي لصلاتي التراويح والقيام منذ عام 1410هـ حتى عام 1417 ، ثم عاد وأمَّ المسلمين في صلاة التراويح في عام 1436هـ. وأمَّ المصلين في فترات مختلفة بمساجد قباء والعنابية وعبدالله الحسيني ومسجد حسن الشاعر الذي ظل به حتى وفاته.
وله عضويات ومشاركات في ندوات ودورات وفعاليات متعدّدة في الداخل والخارج وعدة تسجيلات للقرآن الكريم كاملاً.
توفي في التاسع من رجب عام 1437هـ ووري جثمانه في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة.
رحل محمد أيوب ولا يزال صوته يعتمر القلوب بالخشوع ويغمر الوجدان بالهجوع.. بصوت أصيل وصدى نبيل جذب الذوق الديني وتجاذب مع الذائقة الإيمانية ليبقى لحنه الجميل رفيقاً للأنفس وأنيساً للأرواح كشاهد دنيا وشفيع آخرة.