د. خيرية السقاف
عند الكِبَرِ يُمتحَن الصَّبرُ..
مقولتي التي ألقيها في آذان الناشئة كلما وجدتهم يتحلَّقون بحب، أو يعبِّرون بملل، أو يُرغمون للمثول بين أيدي كبار السنِّ في بيوتهم.. وكثيراً ما أضيف إليها: بل يُمْتَحن الخُلُقُ..
مع أن الصبر قيمة تتمثَّل في احتمال الكبير حين يوهن، ويضيق صدره بعجزه غالباً، أو بمرضه أحياناً، أو بشعوره الغالب بأنه لم يعد نافعاً لعمل، أو لمسؤولية، أو لركض بنشاطه السابق، ولا بحيويته التي كانت تضخ فيه الأمل، وتغنيه عن حاجة السؤال لمن يعينه على المشي، أو الوقوف، أو حتى تناول الأكل، وتبديل الملابس.. حينها هو بحاجة لمن حوله، أولئك الذين تربطهم به علاقة أبوية، أو أخوية، أو قربى، وتمتد للجار، والصاحب، وبعيد الصلة من الأقارب في مجتمع الإنسان النبيل الوفي المتمتع بروح المسؤولية، وبمكارم الأخلاق ليتمتع هذا المتقدِّم في السن بالاطمئنان، و بالإحساس بالأمان، بل يزيد حين يجد من حوله يعودون إليه عند المشورة وإن لم يأخذوا بما يقول..
لذا يكون الصبر محك أخلاق المرء عندما يصبح الكبير في البيت مُسنًّا، ثم طاعناً عاجزاً يحتاج إلى غيره..
كان في مجتمعنا للكبار في الأسر قدرهم، ومهابتهم، وتوقيرهم، واحترامهم، بل حبهم، والشغف بالجلوس إليهم.. حتى سرت جداول مفاهيم، ومفردات سلوك، وجملة عادات من كل صوب، فتبدل مع الشرب منها سلوك كثير من الأسر مع كبار السن فيها، وباتت غالبيتهم في حجرات منعزلة عن الممرات الصاخبة بالحيوية، والمجالس الدافئة بالحميمية، يمر عليهم بعض من أفراد أسرهم، ولا يفعل صغارها، ويترك شأن رعايتهم بينهم للخدم، وإن استطاع سبيلاً بعضهم جلبوا من يعنى بتمريضهم، أو بشؤون طلباتهم المعهودة من لا يتحدث بلسانهم، ولا تربطه بهم أمشاج، ولا يشاركهم في أوشاجهم..
كثير من المسنين في البيوت في وحدة قاتلة، وغالباً ما يموتون على فراشهم، أو مقاعدهم قبل أن يأتي طارق ليقول لهم سلاماً..
إن الواقع في مجتمعنا الآن يؤكد ما أقول، بأن المرء عند كبره، يُمتحن صبر أهله، حين يكون الصبر عنواناً لقائمة أخلاقهم، ومدى وعيهم بحقيقة أن موت الإنسان ليس حين تفيض روحه، بل حين يصبح في عزلة عمَّن حوله، تحرمه الصوت، والثقة، والدفء، والتقدير، والعناية، وتلك اللهفة التي كان يركض بها نحوه صغيرُه الذي كبر، ثم أقفى عنه بظهره..
ذلك الموت البطيء بسكِّين الغربة، والحسرة، وخيبة الشجر في ثمارها..
لقد غدونا في مجتمعنا على شفا جرف من الخسارة، حيث بدأ العد التنازلي لعصبة الأخلاق !!..
على الرغم من أن هذه العصبة وإن تفلتت من قائمتها عناوين كثيرة بتفاصيلها لدى الكثرة، يبقى هناك قلة لا تزال على العهد بها، أولئك الذين لا يغترب مسنُ بينهم، وحين يموت تكون الدموع عليه من عروق القلب تتدفق!!..