سام الغُباري
كنت هناك، في بلادي، أستمتع كل صباح بصوت أبي يحثني على حمية غذائية، أشاهده غاضبًا وفي فمه حديث عاشق لابني الذي أحبه كثيرًا، في صباحات الجمعة كانت العائلة تجتمع عند قبر أمي، كنت أجلس إلى جوارها أحدثها بشغف عن شؤوني، وهي صامتة كما كانت في حياتها. كنت هناك مُدمِنًا مدينتي، أمنع عني شوق صنعاء وغموضها، بوصفي حارسًا غير متقاعد، وعاشقًا لا صبر له، كان كل شيء جيدًا، قات المدينة وفقرها، وضحكة أهلها ونوادرهم الأثيرة، انتميت إلى ذمار كوطن، فيها اهتز قلبي حذرًا، وردّدت غرفة الجلوس صوت بكائي الأول. كنت هناك غارقًا في عشق نسوة لا أعرفهن، كنت في الرابعة والثلاثين أفكر في عامي الأربعين بهلع، وفي 9 فبراير 2015م تعرضت للاختطاف.
شباب 11 فبراير الذين ناصبتهم الخلاف منذ أول يوم لاحتجاجاتهم، تضامنوا معي بقلوب حُرة، قلة من الحزب الذي انتميت إليه حقًا تحدثوا عني، بعضهم أعاد الاختطاف إلى «جهة مجهولة»، ذلك اليوم كان قاسيًا، حاولت أن أتفهم أسباب ما يجري، وألفيت جيراني «السُلاليين»» عند أبواب الاحتجاز يشمتون فيّ، كنت حافي القدمين، ارتدي جلباب النوم، كان صباحًا قاسيًا ومريرًا.
ذلك اليوم، غيّر حياتي إلى الأبد، تعرفت إلى الأصدقاء الحقيقيين، وفجعت من كثرة الخيانات والأقاويل التي نالت من عرضي وسمعتي، رأيت انهيار الكبار، واختلال موازين كل شيء في حياتي، صرت أسمع جيدًا بعد أولى الصفعات التي تلقيتها على أذني من جارٍ حوثي كان يأكل معي في صحن واحد أغلب صباحات الحياة الماضية.
لقد جعلني السجن أكثر استخفافًا بالموت، فقد رأيت أصدقاء هناك يخرجون إلى ساحات الإعدام بقلوب راضية، يُقتلون تنفيذًا لعقوبة أصدرها قاضي القضاة، ذلك القاضي الذي يعمل اليوم تحت امرة القاتل الحقيقي دون أن يملك جرأة على إدانة حاكمه الوغد، فقط وحدهم الضعفاء يُقتلون بجريرة أو دون ذلك.
قررت أن أصبح قويًا، فذهبت إلى القوي العزيز أسأله أسباب القوة وعطاء الطمأنينة وسكينة النفس وجلد التحمل على آفات الشائعات وأقاويل الخونة الأنذال، فهدأت نفسي وسكنت روحي، وخرج الناس يرفضون «الحوثي السُلالي» وعلى طريق نضالهم رُفِعت صوري في مواجهة جريمة التمرد على جمهورية الشعب العظيم ونظامه وحريته. خرج عشرات الآلاف رفضًا لتكتيم أصوات الناس ومصادرة الشورى وإلغاء الحياة السياسية في بلادي الحبيبة.
يوم هاجرت وطني قررت أيضًا أن أستعيده بما أجيد، فقرأت مئات الكتب بحثًا عن أسباب التوحش الحوثي على اليمنيين، قرأت لمستشرقين فرنسيين وإيطاليين، نقّبت في تاريخ صفين ومعارك الصحابة المؤلمة، تسلقت أشجار الأنساب، وطرت كرحالة على ضواحي اليمن وقبائلها أتتبع خطوات أبي الحسن الهمداني، بحثت عن تاريخ الرجال المكروهين، فوجدتهم ضحايا التوثيق الغادر، ورأيت دموعهم تخضل لحاهم خلف قضبان الزور والتزوير والبهتان والتحريف والتأويل.
لقد سجن أجداد الحوثي أفذاذ الأمة المتعاقبين في غيابات الجُب،لأنهم أقروا حقوق الشورى والعدالة ومبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صدرت أحكام زائفة تناقلها الناس دون بحث وإدراك، اتخذوا أقصر الطرق في تناولهم للحقائق مكتفين بالعناوين ومشاهدات أفلام السينما ونتف العلم من مجموعات الواتساب !.
الانحراف الذي تعانيه الأمة بدأ من أول غلاف لسير المجرمين الذين أدانوا اليمانية وقتلوها وشردوها وذبحوها بسيف مُتناسل. مايزال آباؤنا الكبار في سجون القرون الوسطى مثقلين بشائعات دمرت سمعتهم وشوهت تاريخهم وحولتهم إلى فُسّاق ملعونين.
في سبتمبر 2014م حكم الحوثيون على كل أسلافنا بالبراءة وأدانوا أنفسهم، كل أولئك الذين أغرقهم التاريخ بالخطايا ليسوا كذلك.. نحن بحاجة لمراجعة كل شيء، واستحضار ظروف الصراع كاملة.
أقول لكم وأكرر.. اكتبوا، ولا تدعوا أي شاردة تمر، تحدثوا بتصالح مع أنفسكم ودونوا أولى اللحظات وآخرها، فثمة من يقرأ.. ولو بعد حين.