د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
يمكن القول بأن أول ما قد يتبادر إلى الذهن من جملة التساؤلات التي فرضت نفسها على المراقب لحالة الاحتقان التي سادت العلاقات السعودية الأمريكية في أعقاب الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، هو ذلك السؤال ذو الأبعاد الثلاثة: هل تغيّرت النظرة الأمريكية السلبية السائدة تجاه السعوديين عقب 11-9؟ كيف؟ وإلى أي مدى؟
إن السؤال، بقدر ما هو طبيعي ومنطقي، فإنه يمثِّل مدخلاً «علمياً» ضرورياً لفهم التغيّرات التي طرأت على الذهن الأمريكي، والتي شكّلته تأثيرات هجمات الثلاثاء الأسود الإرهابية. وهنا قد يكون من الملائم أن نشير، على وجه التحديد، إلى ما كتبه بعض رجال الصحافة والإعلام في الولايات المتحدة عن المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام، وعن المملكة على وجه الخصوص، وهي المقالات التي تمحورت حول صورة «سلبية وقاتمة» اختزلت الدول العربية والإسلامية فيما أسموه بـ»براميل النفط» أي أن تلك المجتمعات، وبمعنى آخر، ليست أكثر من أنها محطات لتزويد الغرب بالوقود.
وبقدر ما كان يعبّر الكتاب عن اتجاه أمريكي قوي آنذاك، اتجاه مؤثّر وغالب داخل النخب الأمريكية - راح يتشكل في أعقاب هجمات 11-9، وبقدر ما كان يعكس رأياً عاماً في قطاع واسع من الطبقة الوسطى في المجتمع الأمريكي، بقدر ما كشف عن «فجوة» هائلة في العلاقات السعودية الأمريكية، الأمر الذي يجعل تساؤلنا حول تغيّر النظرة الأمريكية، ليس ضرورياً وملحاً فحسب، بل لأنه يمثّل المدخل العلمي الوحيد والممكن، لفهم طبيعة العلاقات الخارجية، وكيف تتشكّل، ومعرفة المؤثّرات والعوامل الأساسية التي تصنع المجرى الرئيس لأي علاقة بين الدول والشعوب، وهو أمر مهم جداً للمعنيين والمختصين بمراقبة هذه العلاقات، الذين يهمهم أن يؤثّروا فيها، وخاصة، على نحو إيجابي.
وإذا كان المراقب لمجمل أداء السياسة السعودية وأهم ملامحها وتحولاتها، خلال السنوات العشر الأخيرة، يظن أن الكثير من هذه «الإصلاحات» جاء كرد فعل للصورة المشوّهة التي أشرنا إليها، فإنه يكون قد وقع في خطأ تاريخي كبير.
ذلك أن إستراتيجية الإصلاح السعودي، وما تبعها من أداء ملموس، بدأت فعلياً قبل الحادي عشر من سبتمبر، وسبقت ذلك التاريخ بسنوات. فقد بدأت القيادات السعودية في تنفيذ «أجندة» الإصلاحات منطلقة من «الاقتصاد» الذي مهد لحزمة من التغيّرات الاجتماعية والتعليمية والثقافية الواسعة، التي كان لا بد أن تلي ما حدث على صعيد الاقتصاد، إلا أن ترتيبها الزمني «تقاطع» مع هجمات 11-9 الرعناء.
إن إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي أشرفت عليها القيادات السياسية السعودية منذ تسعينيات القرن العشرين الميلادي، والتي كانت «الخصخصة» على رأسها، كانت ترمي، في جانب مهم من جوانبها الرئيسة، إلى توسيع إطار المشاركة الشعبية، حيث سعت الدولة بنفسها إلى التخلّي عن ملكية الكثير من المرافق الأساسية، لتفسح مكاناً لرأس المال الخاص، بحيث يدخل «شريكاً» رئيساً، بل ورائداً في قطاعات مهمة من الاقتصاد الوطني، فكانت خصخصة القطاعات الاقتصادية دليلاً على رغبة واضحة من الدولة في «توسيع إطار المشاركة الشعبية» لتدخل شرائح اجتماعية قادرة ومؤهلة، تاريخياً واجتماعياً، إلى موقع مناسب في الإدارة الإصلاحية، كمدخل لمشاركة أوسع نطاقاً في مجالات اجتماعية وسياسية وثقافية، كما أثبت تطور الأحداث بعد ذلك.
إذن، فالإصلاحات الاجتماعية والثقافية الواسعة التي شهدها المجتمع السعودي، تمثّل انعكاساً لتوجهات القيادات السعودية، وطبقاً لبرامجها وأجندتها الإصلاحية التي انطوت على منظومة من الأفكار الخاصة بالتحديث وتطوير المجتمع، بما يواكب التغيّرات العالمية السريعة والمتلاحقة، على كافة الأصعدة وفي كافة المجالات، وبما لا يتعارض مع ثوابت المجتمع بقيمه الدينية، وأنساقه ونظمه الأخلاقية.
ولقد مثّلت هذه الإصلاحات، ولا تزال، تعبيراً عن حاجات حقيقية وفعلية للتطور التاريخي الطبيعي، الذي بلغ معها المجتمع السعودي مرحلة بالغة الأهمية.
من هنا جاءت حتمية البرنامج الإصلاحي التحديثي الرائد الذي تبنته القيادات السعودية، على أصعدة عدة، بدءاً من التعليم إلى الانتخابات البلدية، إلى التشريعات الجديدة، إلى التوسع في البرامج التنموية الحديثة، مروراً بتمكين المرأة السعودية، وغيره.
إنه مشروع متكامل للتحديث و»العصرنة» إن جاز التعبير، وهو أيضاً مشروع لتطوير البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمع السعودي، وتأهيله لعصر قادم، وبما يفرضه من تحديات كبرى على المجتمع السعودي، قيادةً وشعباً وحكومة.
إنه، بكل ما تحتويه الكلمة من معان، مشروع القيادات السياسية السعودية المتلاحقة للتجديد، وخريطة الطريق للنهضة التي تؤهل المجتمع لسباق التقدّم، الذي بدأ بالفعل، مع شروق شمس القرن الحادي والعشرين.
وسوف نقدّم في مقالة لاحقة نماذج إصلاحية، «نجزم» أنها قد أثّرت على تغيير المفاهيم الخاطئة في العقل الأمريكي والغربي، على حد سواء.