د.عبد الرحمن الحبيب
استمراراً لممارسة سياسة «أقصى درجات الضغط» على النظام الإيراني، تسعى الإدارة الأمريكية عبر مؤتمر وارسو إلى حشد العالم وكسب دعم الحلفاء بأوروبا والشرق الأوسط لزيادة الضغط على إيران ودفعها للكف عن سلوكها العدواني بالشرق الأوسط وسياساتها التخريبية بالمنطقة باعتبارها أكبر خطر يهدد المنطقة.
إذن، يأتي هذا المؤتمر، في المقام الأول، كضغط سياسي لكسب تأييد أطراف جديدة أوربية وشرق أوسطية، ورسالة تجَمُع دولي كبير توضح وحدة الصف وجديته لممارسة مزيد من الضغوط على النظام الإيراني. ولمن يريد تقييم تأثير هذا المؤتمر فعليه ألا يأخذه وحده، بل في سياق سلسلة من الضغوط بدأت بالمقاطعة والعقوبات الاقتصادية.
إذا كان القادة الإيرانيون يفخرون بقدرة اقتصادهم على النجاة على مدى أربعين عاما باعتباره «اقتصاد مقاومة» فإن مجرد البقاء المتزعزع ليس إنجازاً، فضلاً عن أن يكون فخرا، فيما يرزح الشعب الإيراني تحت مستوى معيشة متدن. وهنا، بمناسبة مرور أربعين عاماً على هذا النظام وعشية انعقاد مؤتمر وارسو، غرد سمو الأمير خالد بن سلمان سفير المملكة لدى واشنطن: «ازداد دخل الفرد في المملكة منذ عام 1979 عشرة أضعاف، بينما تراجع في إيران بأكثر من النصف. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للمملكة ضعف نظيره في إيران بعد أن كانا متساويين في عام 79»؛ موضحاً أن هذا النظام لا يزال «يبدد أموال شعبه في دعم الإرهاب والتطرف والطائفية وعدم الاستقرار في المنطقة».. ومشيراً إلى أن السعودية «تنضم إلى نحو 70 دولة في مؤتمر وارسو لمواجهة التحديات وخاصة إيران الراعي الأول للإرهاب..».
المزيد من الدول ينضم للضغط على النظام الإيراني لتغيير سلوكه، لكن موقف الدول الأوربية الغربية يدعو للحيرة! فرغم أنها تتلظى بممارسات هذا النظام وأعلنت خلال الأشهر الماضية عن إدانتها لتصرفاته من اغتيالات وتفجيرات بالعواصم الأوربية التي تديرها مؤسسات إيرانية، واتخذت مواقف دبلوماسية حادة وهددت بمزيد من الإجراءات الصارمة، لكن لا يزال الموقف الأوربي ضبابياً.
يبدو أن ما تمر به أوربا الغربية من أزمات اقتصادية تبحث عن فرص استثمارية مع إيران، ومن انقسامات حادة في عدة قضايا خاصة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، له دور رئيسي لهذا الموقف المربك.. كتب جوناثان ماركوس (بي بي سي): المؤكد أن وزراء خارجية لندن وباريس وألمانيا لديهم مخاوف حيال النهج الإقليمي لإيران بالمنطقة وتطويرها لبرامج صاروخية؛ لكن هناك قدرا من الضبابية لا يزال يغلف الإجراءات التي تعد لها تلك الحكومات لمواجهة ذلك. وبالنسبة للأوروبيين، فيكفيهم أن يتمتع الاتفاق النووي بين إيران وقوى الغرب بالقدرة على تقويض الأنشطة النووية الإيرانية، وهو ما يقع من الأهمية بمكان بالنسبة لدول أوروبا؛ لكن على مستوى واشنطن وإسرائيل والدول العربية المعتدلة، لا يُعد ذلك كافيا.»
عن مثل موقف الأوروبيين من إيران، يذكر حسن منيمنة (معهد واشنطن) أن ثمة من يرى إمكانية تطبيع العلاقات مع النظام الإيراني لكنه من باب التمني الواهم بالاعتماد على أصوات خجولة ضمن مؤسسات الدولة الإيرانية؛ مميزاً بين إيران الثورة والدولة، حيث تسود الأولى.. فإيران قائمة على التوجهات الثورية وتغذية الجهات الخارجية لثورتها الطائفية.. والنجاح بهذا المسعى الثوري يسبب فشل مسعى الارتقاء كدولة اعتيادية. وقد يثابر البعض في دوائر الحكم بطهران على إنكار هذه الحقيقة، ولكن الواقع هو أن إيران الثورة ليست قائمة بموازاة إيران الدولة، بل إيران الثورة هي عائق أمام إيران الدولة.. وحتى إذا كان ثمة قيادة في طهران على قناعة بأن المصلحة الوطنية تقتضي العودة للأطر السياسية الدولية الاعتيادية، فالمنظومة التحتية التي أنشأتها إيران الثورة، قد ورّطتها ووضعتها بموقع عقائدي تعجز معه عن تحقيق التحول المطلوب.. فما يجري ليس سجالاً بين الدولة والثورة، بل تسخير للدولة من جانب الثورة لتحقيق مصالحها.
أبسط مثال على ذلك هو أن الاتفاق النووي مع إيران وما نتج عنه من رفع العقوبات وتطبيع العلاقات وتقديم المحفزات لتهيئة الطريق لتحويل إيران إلى دولة اعتيادية، إلا أن طهران استغلتها لتوسيع نشاطها في تصدير الثورة والمزيد من التدخلات بالمنطقة؛ والالتفاف على الاتفاق النووي بزيادة ترسانتها البالستية، بدلاً من استغلاله بالتنمية الداخلية وتطبيع علاقاتها مع العالم.. هذا هو الرد الإيراني على المحفزات الأوربية.
أما الرد الإيراني على مؤتمر وارسو هو أن أمريكا تسعى لفك عزلتها! هكذا كتب ظريف بتغريدة له: تسعى واشنطن للتحايل على عدم احترامها للقوانين وعزلتها عبر عقد تمثيلية وارسو». هذا المنطق لوزير خارجية دولة شبه معزولة ومحاصرة اقتصادياً ولا تحترم القوانين الدولية، يوضح مدى المأزق الذي يعيشه النظام الإيراني؛ أساسه التناقض بين إيران الثورة والدولة.. فسواء حوصر هذا النظام أو تم التطبيع معه فردوده المقيدة بالسلوك الثوري الطائفي والمفارقة للواقع تمثل مأزقه الحقيقي.. إنه نظام غير قادر على احترام القوانين الدولية.. لكن ليس لنا في نهاية الموضوع إلا كما قال عادل الجبير: «نأمل أن تقوم إيران بتعديل سياستها وتحترم القوانين الدولية ومبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى ومبدأ حسن الجوار وأن تكف عن دعمها للإرهاب..»