عبد الرحمن بن محمد السدحان
إنّ لتجربة الدراسة الجامعية في أمريكا تحديدًا مساحةً أثيرةً في نفسي لا تغرب عنها شمسُ الذاكرة، ولا يُغادرُهما قمرُ الحنين، مضيفًا أن الذين أمّوا تلك الديار البعيدة من أبناء هذه البلاد لغرض الدراسة عَبْر العقُود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي عادوا منها أصنافًا من البشر، ممثلةً بما يلي، تمثيلاً لا حصرًا:
1) منهم من أفلح فلاحًا تخَطىّ به الصعابَ نحو العُلا، وعادوا إلى ديارهم مكلّلين بغار الفوز بالغاية التي شدّوا الرحال في كل الأرجاء من أجلها وفي سبيلها.
2) ومنهم من تردَّى حظه ولازمتْه تبعات ذلك في الغربة وبعد العودة إلى الوطن، ثم عاد إلى الوطن مشَتْتَ الوسيلة والغاية لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك!
3) ومنهم من عاد بذاكرة معلوماتية (معلّبة) لا تلبث أن يعفُوَ عليها الزمنُ صلاحيةً أو تمحُوها (عثّةُ) النسيان!
**
* وبعبارة أكثر دقة، من المبتعثين من لم تتجاوز به تجربتُه في العالم الجديد جدرانَ مأواه، والدربَ الذي يسلكه إلى جامعته، وقاعة الدرس التي تُحقَن فيها ذاكرتُه بما حوته الكتب المقررة، وهو يتلقى كل ذلك بصمت المستسلم.. بلا سؤال ولا بحث ولا اعتراض، فنال من العلم واللغة حدًا أدنى أحرز به شهادةً ما بمستوى ما. ثم عاد إلى الوطن (عذريَّ) الذهن والوجدان، وسرعان ما ادركتْه عواملُ التعرية الزمنية والاجتماعية والأُسرية لتطمسَ الكثيرَ من معالم شخصيته قولاً وعملاً، فلا يبقى منها سوى (أطلال) تذكَّر به فحسب!
**
* وهناك مبتعثٌ ثان فَقَد توازنَه في العالم الجديد منذ اللحظة الأولى انبهارًا بما استقبلتْه حواسُّه الخمس، فمنح الدراسة من نفسه حدًا أدنى: وقتًا واهتمامًا وجهدًا، وراح يتعامل بـ(بوهيمية) ظاهرة أو مستترة مع المواقف والأشخاص بهدفٍ حينًا.. وبلا وعي أحيانًا، وقد يصاحب ذلك تعثُّرٌ في الدراسة، فيقفز إلى هذه الكلية أو تلك، مستفيدًا من (مرونة) التعليم الجامعي في أمريكا، ثم يفوزُ في النهاية بشهادةٍ مَا قبل أن يحزمَ حقائبَه عائدًا إلى وطنه مشْدُوهًا بما رأى وسمع وذاقَ من لذّات الحسِّ، وبرصيد متواضعٍ من اللغة والمعرفة ومن الفهم والاستيعاب لمفردات الحياة هناك وعْيًا واستنتاجًا، وقد تقترنُ عودتُه إلى الوطن بـ(حواء) شقراء أو سمراء، تلخّصُ حصادَ (ركضه الاجتماعي) في ديار الغربة، ليَضعَ أهلَه ورفاقَه.. و(فتاةً من الوطن) ربّما كانت تَتَرقّب عودتَه.. أمام حتمية (الأمر الواقع)!
**
* وهناك صنف ثالث من المبتعثين منحه الله نعمةَ التوازن عقلاً وبصيرة ووجدانًا، فلم يفرط في واجبات المهمة الشريفة التي شدّ الرحال من أجلها، وكان التفوقُ الدراسيُّ همَّه وغايتَه، ولم ينسَ في الوقت ذاته نصيبه من زاد الثقافة ومتعة الخاطر البريئة، وعاش تجربة سويةً مع مصادر الإشباع لهذا وذاك، متيحًا لنفسه فرصةَ (التعلَّم) بمفهوم أرحبَ وأغْنَى، وامتصَاصِ المفيد من مخرجات الثقافة المحلية دون أن تهتزَّ في نفسه هُويّةُ الولاء لثوابته وقِيَمه وجذُوره، أو تتعثَّر في عزمه آلية الإصرار على إنجاز مهمته، ففاز بالنعيميْن: تفوّقٌ في الدراسة مكّنه من بلوغ المراد، وحصادٌ من المعرفة والثقافة والخبرة منَحتْه شفافيةً وانفتاحًا حيال نفسه ومَنْ حوله.
**
باختصار:
* مَنْ عاد من أرض الغربة مبْتعثًا سالمَ العقل والنية والوجدان، مشْبعَ الذهن بما يفيد من علوم الأرض والإنسان، فأولئك هم الفائزون حقًا. أما الذين سلكُوا الدربَ نفسَه، ثم عادوا إلى وطنهم كما بدأوا أولَ مرةٍ بلا علم ولا خبرة ولا بصيرة، فليس لهم سوى العزاء والدعاء!