سهام القحطاني
في المقالة التي كتبها الدكتور إبراهيم التركي «الفوضى الثقافية» سلطت الضوء على جزء مهم من الواقعية الثقافية عندنا وهي مسألة «اضطراب الهوية الثقافية» للمثقف السعودي وهذا الأمر هو الذي سأتحدث عنه في هذا الموضوع.
لعل سؤال الفاتحة لمناقشة هذه المسألة هو؛ هل يملك المثقف السعودي «سلطة تأثير» على العقل الجماهيري؟ مثل «رجل الدين» ولا أقصد هنا المقارنة بين رجل الدين والمثقف بقدر ما أقصد المقاربة في حدّ التأثير.
وأظن أن الإجابة الأقرب للواقع التفاعلي هي أن المثقف لا يملك سلطة تأثير على العقل الجماهيري وكما أوضحت في المقال السابق من الفوضى الثقافية لأنه يظل في خانة «ردة الفعل» وليس «الفعل».
وحسبما أعتقد أن غياب سلطة تأثير المثقف على العقل الجماهيري يعود لأسباب عدة منها ما هو خارج عن إرادة المثقف السعودي ومنها ما هو بسبب شخصية المثقف السعودي.
يتشكل العقل الجمعي السعودي وفق تأثير سلطة السياسي والديني؛ ووفق هذه السلطة تتم صياغة كل أشكال وطرائق التفكير والتثقيف المجتمعي.
إذ كانت الثقافة دومًا وفق هذا المنهج جزءًا من تلك السلطة وبالتالي فهي تابع لها وليس معادلا لها، وهو أمر أطّر ذلك العقل بأحادية فكرية تتحرك بين الديني والسياسي؛ أي بين الثابت والمفروض، في حين أن الثقافة يجب أن تمثل سلطة موازية مانحة لحرية التجريب والتحّول والتغيير.
وهو ما يعني أن «الثقافة» لم تكن في الأساس أصلاً من الأصول الفكرية لتشكيل هوية العقل الجمعي في السعودية في ظل توفر النماذج الدينية باعتبارها نماذج فكرية وتثقفية تنوب عن الثقافة، ولذا تربى العقل الجمعي على أن الثقافة هي جزء من الديني، وليست كيانًا مستقلاّ موازيًا للديني.
وعندما بدأت تتوسع المفاهيم الحضارية للمجتمع وأخذ مفهوم استقلال الثقافة عن الديني في الظهور، تعرضت فكرة انفصال الثقافي عن الديني إلى الرفض والعداء حتى يومنا هذا في صراع بين الاستقلال والتبعية بين الديني والثقافي.
وهو ما جعل بعد ذلك كل تحرك ثقافي نحو أسوار العقل الجمعي عدوانًا على أصول ذلك العقل وهذا الاعتقاد يبرر لنا الهجوم الشرس على المعتقدات الثقافية التي تطرح في المجتمع باعتبارها اقتحاما لأصالة الهوية وتخريبها.
ولذا تحولت الثقافة في رأي العقل الجمعي أو بالأصح من يتحكم في حركة توجهات ذلك العقل إلى عدو محتمل يسعى إلى معاداة أصول ذلك العقل وهدم ثوابته، بحجة إبعاد العقل الجمعي عن ثوابت الديني وتشجيعه على العلمانية وتبديل العقلي بدلا من الديني في صياغة المواقف والأحكام وتقدير الأولويات، وهو أمر إذا تمّ سيضرّ بقدسية حراس ذلك العقل وبوسائط سلطتهم.
وبالتقادم والتكرار أصبحت الثقافة في العقل الجمعي هي معادل للخطر المهدد لهوية المجتمع وأصالته، وهي كما يعتقد محفزة لكل ما هو غير ديني أو غير أخلاقي هذه الشرطية بالفساد نزعت عن الثقافة سلطة التأثير على العقل الجمعي لأن سلطة التأثير لا تتحقق إلا بقيم الاطمئنان والمصداقية والنزاهة، وهي قيم لا يعترف العقل الجمعي بتوفرها في الثقافة.
وبذلك أطّر العقل الجمعي الثقافة في ثلاثة محاور هي:
أن الثقافة ليست أصلا من أصول تشكيل العقل الجمعي وبذلك يمكن تهميشها أو الاستغناء عنها، وهو ما أفقدها ضرورة امتلاك السلطة والتأثير، وبالتبعية أفقد ممارٍسها استحقاقه لسلطة التأثير.
اعتبار الثقافة -وفق رأي العقل الجمعي- منتجًا غريبًا دخيلًا يسعى إلى سلخ العقل الجمعي من هويته وأصالته، وهذا الإحساس هو حاصل المقارنة المستمرة التي يحملها الخطاب الثقافي ما بين المجتمع الرجعي والمجتمع المتحضر، والدعوة إلى محاكاة المجتمعات المتحضرة، وهي دعوة ترفع إحساس العقل الجمعي بالخطر على هويته وأصالته وبالتالي تجميد الخطاب الثقافي إما بالرفض أو المقاومة أو وضعه دومًا في قفص الاتهام للتشكيك في مواطنته وصلاحية انتمائه.
المضمون الشائع بأن الثقافة هي الحرية إلى ممارسة كل شيء دون إلزامات دينية وأخلاقية باعتبار أن تلك الإلزامات ما هي سوى عادات وتقاليد بالية.
هذه الذاكرة الجمعية المكتسبة لطبيعة الثقافة التي غيّبت أهميتها ودورها التنموي لم تكن السبب الوحيد وإن كان المهم في تنحية الثقافة كشريك لسلطة التأثير والتغير المجتمعي بل أسهم بدور فاعل في هذه التنحية «المثقف ذاته».
إن قيمة الفاعل تُكتسب من أهمية وتأثير فعله وإيمان الآخرين بذلك الفعل، وهو ارتباط منطقي بين أهمية الفعل وقيمة الفاعل، ومتى ما انتزعت الأهمية عن أي فعل فقد صاحبه القيمة والتأثير.
وهذا ما يحدث مع المثقف السعودي؛ إن عدم إيمان العقل الجمعي بأهمية الثقافة كمؤثِر على مفاصل وتفاصيل الحياة انعكست بدورها على المثقف الذي كان وما يزال في خانة التهميش مقارنة برجل الدين، الذي كان وما يزال المنافس الأكبر للمثقف حتى تحول إلى «عقدة» بالنسبة للمثقف ظهرت آثارها على تحول الكثير من المثقفين إلى رجال دين من الباطن وترك الشأن الثقافي إلى الشأن الديني حتى يتقاسموا كعكة العقل الجمعي مع رجال الدين، وهذا المسار الذي اختاره المثقف ليحجز مقعده في دائرة الضوء أخل بأصالة هويته الثقافية وجعله «ردة فعل» تتصف بالانفعالية وتهدر طاقته الفكرية وهو ما ترتب عليه غياب العقلانية الثقافية التي تسهم في «بناء رؤية مستقبلية ومشروع ثقافي تنموي طويل المدى».
كما ترتب على تلك التنافسية الضوئية اضطراب في دور المثقف الذي اقتصر على «استراتيجية القص واللصق لتجربة حضارية جاهزة» تتجاهل مواصفات هوية العقل الجمعي وأصالته من باب الاستسهال في فرض دوره التنموي بدلا من صياغة تجربة حضارية مقنعة للعقل الجمعي ومحفزة على تجريب التغيير.
غياب أثر المثقف في التجربة الحياتية للعقل الجمعي وانحصار دوره على»تلك التنافسية»، وبذلك اعتمد تركيز بوصلته على حركة الرأي الجمعي وليس تشكيل ذلك الرأي وقيادته وهو ما أعمق اضطراب هويته الثقافية وتأثيره المجتمعي.