كان يا ما كان في سالف العصر والأوان، قرية بدائية يتنازع أهلها، قادها رجلٌ حكيم مُحنك في ريعان شبابه وأرسى فيها قوانين تجمع شتات فرقتها وتوحد كلمة الرعية.
وبفضل من الله ثم بإصرار هذا الحاكم ازدهرت القرية وذاع صيتها بين القرى وباتت على مقربة من منافسة بقية القرى المتقدمة والمتحضرة.
وكأي بلدٍ في بداية تأسيسه يواجه الكثير من التحديات الخارجية والداخلية لكن الحاكم القوي ومن خَلَفه من أبنائه كانوا دومًا قادرين على مواجهة الأزمات وتذليل العراقيل وتبسيط الصعوبات ليعيش شعب القرية في أمنٍ وسلام.
في أحد السنوات شهدت المنطقة بأكملها مدًا فكريًا كان له تأثيره الكبير على كل القرى ومن ضمنها القرية السعيدة، واستمر هذا المد لسنوات وكأي فكرة تتسيد في زمنٍ من الأزمان فهي تحمل من السلبيات ما تحمله، فظهر المعارضون منهم من كان يحمل فكرة مضادة ومنهم من استهجن الفكرة السائدة ومنهم من كانت نيته دس السم بالعسل وكل ما يعنيه هو استغلال هذا الخلاف لتأجيج الفتنة بين أهالي القرية.
انجلت تلك الغيمة وأشرقت شمسٌ جديدة، وتحققت مطالب المعارضين
ومنهم من أُثلج صدره وركب موجة التغيير الجديدة وبارك الخطوة.
وآخرون اعتادوا التذمر وراحوا يبحثون عن شأن آخر يتذمرون منه. أما المنافقون فقد تكشفت حقائقهم وسقطت أقنعتهم.
وفي إحدى الليالي تسامر رجلان ممن كانوا يعارضون الفكرة البائدة، أحدهما كان مسرورًا بما آلت عليه أحوال القرية وقرر أن يُبارك الفكر الجديد فهو ما كان ينادي به. لكن الآخر تبرّم وتجهم رغم أنه يتبع ذات الأيدلوجية التي يتبناها صاحبه،
وأخذ يبحث عمّا يُنازع الحاكم فيه متحججًا بكونه مثقفا وأن المثقفين لا بد وأن يكونوا على يسار السُلطة.
* تساءل صاحبه: ألم يتم كل ما كنت تنادي به؟ ألم تتحقق كل مطالبنا ومطالبك؟
* بلى، ولكن ما زال هناك كذا وكذا وكذا.
* منذ متى تهتم لتلك الأمور؟ أم أنك رجلٌ بلا هدف
* أنا رجلٌ أحمل قضية.
* وما هي قضيتك؟
سكت الآخر، فهو لا يعلم ما هي قضيته، فمثل هؤلاء لا قضية لهم ولا هماً يحملونه سوى الامتعاض والاعتراض.
ولو أنهم ملكوا الشمس بيدٍ والقمر بالأخرى لقالوا نريد يدًا ثالثة تحمل الأرض.
مثل هؤلاء ينتشرون في القرية السعيدة والكثير من القرى الأخرى هم من أخطر الفئات على المجتمع فهم يبثون سمومهم ومخاوفهم الدائمة لتسكن صدور البسطاء فيعيشون في قلق.
هذا هو الفرق بين المثقف الحقيقي المحب لقريته وبين مدعي الأمانة الغارق في أدلجته التائه في فكره.
** **
- حنان القعود