المتابع لما يُطرح من نقاشات وحوارات عامة وخاصة في مجتمعنا يدرك بأن لدينا خللاً ما في ممارسة هذه الحوارات وبشكل ملفت برأيي.. ولعل واحدة من أهم هذ الإشكاليات العامة والمقلقة برأيي هي شخصنة الأفكار ومن ثم الحوارات الفكرية وبشكل يكاد يكون كليًا, فإذا اتفقت مع شخص في رأي اعتبرك صديقه، وإذا اختلفت مع آخر في رأي اعتبرك عدوه. وأنت لست صديقًا لهذا ولا عدوًا لذاك.
ومسألة تصنيف الناس لأصدقاء وأعداء خصوصًا في قضايا الرأي المتنوعة هي مسألة تدل على ثقافة اجتماعية عامة تجهل مفهوم الاختلاف بشكله العام من جهة، وعلى جهل مركّب لدى صاحب هذه الآلية من التصنيف من جهة أخرى، من حيث الفكر ومن حيث الإنسانية أيضاً.
إدارة الاختلاف مع الآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً أو مجتمعاً، فبرأيي هي ترتكز على مجموعة من المفاهيم الأساسية للحوار لعل أبرزها:
– إدراك الفرق الشاسع ما بين حوار الأفكار وما بين حوار الأشخاص، فالأول يؤدي إلى الاختلاف والثاني يؤدي إلى الخلاف، وشتان ما بينهما. فالحوار الحقيقي والمثري في اختلافه أكثر من اتفاقه هو ما تتجاذب وتتصارع به الأفكار فقط بمنأى عن الأشخاص القابعين خلف هذه الأفكار، وبعيداً كل البُعد عن رؤيتنا لهم وتصوراتنا عنهم وعن رؤيتنا لأنفسنا ومفاهيم الكرامة وإثبات الذات والهزيمة والانتصار.
– الإيمان المسبق بأن الحقائق المطلقة في الحياة قليلة جداً ومتفق على أغلبها، وأن مجمل الحقائق التي نتصارع من أجل إثباتها هي حقائق نسبية في جوهرها، بالشكل الذي يجعلها تظهر بأكثر من شكل وأكثر من مظهر، وأن هذه الحقائق تختلف لنا باختلاف زوايا الرؤية، وبالتالي هي لا تتناقض كما نراها إلا بمقدار الزاوية التي انطلق منها كل واحد منّا.
- استيعاب أن غالبية حواراتنا لا تمتلك تلك القيمة المعرفية والعلمية والفكرية التي تجعل من خسارتنا للآخر معنى، فمجمل أطروحاتنا وحواراتنا هي مجرّد تصورات وانطباعات شخصية لا ترتكز على حقائق وأرقام من السهل الرجوع إليها، وبالتالي فإنها لا تملك من المضامين ما يستحق الاندفاع الشديد والحماس الحاد في سعينا لتوضيح هذه الحقائق التي نعتقدها للناس.
- الإدراك بأن معظم الناس التي تتحاور معنا أو تسعى لفتح باب النقاش معنا هي في الغالب لا تبحث عن حقائق أو معارف جديدة من خلالنا، فأبواب المعرفة الإلكترونية وغير الإلكترونية مفتوحة للجميع، والناس لا تملك لا الرغبة ولا الدافع ولا حتى الوقت لاكتساب هذه المعرفة التي قد نتصور بأن الناس تبحث عنها فينا وفي حوارنا. فالناس تبحث عن التسلية وتقطيع الوقت والإثارة ولا تستمع من حديثنا سوى ما يتوافق مع قناعاتها المسبقة ورغباتها ودوافعها لفتح هذا الحوار..
فلنهدأ فيما نطرح ولنتعامل مع حواراتنا بمنتهى التواضع والمنطقية والعقلانية، ونبتعد عن تصورنا الكذّاب بأننا أحد مصادر المعرفة البشرية. فالحوارات في غالبيتها هي مصادر تسلية وإثارة لا مصدر معارف ولا زرع أفكار في مجتمع مكتظ تماماً بالمعارف والأفكار إلى درجة مزعجة أحياناً.
** **
- تركي رويّع