محمد آل الشيخ
كان من أسس خطاب الصحويين إبان سيطرتهم على الساحة الثقافية في المملكة (تزهيد الناس في الحياة)، بالشكل الذي يجعل كثيرًا من الشباب الصغار الذين يوجه لهم هذا الخطاب، يهتمون بشؤون الآخرة، وترتعد فرائصهم من أهوالها، وإهمالهم لأمور الدنيا ومستقبلهم المعيشي فيها، وكان أولئك الحركيون المتأسلمون بخطابهم هذا يهدفون إلى أن ينصرف الشاب عن مستقبله الحياتي، وهذا تكتيك غايته تجهيز الشباب (أيديولوجيا) للعنف والجهاد، ويجعل الموت نصب عينيه بشكل مرضيٍّ، لتجهيزه وبرمجته للعمليات الجهادية، بينما أن (الإسلام الوسطي)، الذي تعايش معه المسلمون طوال الخمسة عشر قرنًا الماضية، كان يوازن بين العمل للحياة الدنيا وإعمارها مع العمل للآخرة والاستعداد لها، والمسلم السوي يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته وكأنه يموت غدًا كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكل من كان في سني قبل أن (تجثم) علينا ما سموه (بالصحوة) القميئة المتعصبة، يتذكر أن مواطني المملكة إناثًا وذكورًا، كانوا أكثر وسطية واطمئنانًا وسكينة نفسية، وتلاحمًا فيما بينهم، مما هم عليه إبان الصحوة لا أعادها الله، وتحديدًا ما شهدناه في عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الميلادي المنصرم والعقد الأول من الألفية الثالثة.
وأنا أرى أن هناك عوامل مختلفة حلت بنا سيّدت المتأسلمين على كل مناشط الحياة، وجعلتهم يستأثرون بمجتمعنا استئثارًا شبه كامل، خاصة فيما يتعلق بالنشاطات الاجتماعية والثقافية وبعض السياسية وإن بدرجة أقل؛ وكنت ومعي كثيرون واثقين أن الصدام بين الدولة وتلك الحركات الصحوية الانتهازية آت لا محالة، كما أشرت في مقالات سابقة نشرتها إبان سطوة الصحوة، كما كنت -أيضاً- أؤكد أنهم (قلة) صغيرة من المجتمع، وإن عَلت أصواتهم، وأن القضاء على أوكارهم ضرورة أمنية وتنموية، طال الزمن أو قصر، أضف إلى أن خطابهم الفلسفي ديماغوجي وساذج، ومحدود الأفق، ومغالط ومكابر، لا يقدم حلولاً بقدر ما يسعى إلى تجييش العواطف بقصد الوثوب إلى السلطة، على غرار الثورة الخمينية.
ولا بد من الاعتراف هنا أنهم حققوا بعض الجماهيرية خلال العقود الثلاثة الماضية، وخدعوا كثيرين، خاصة من حباهم الله بغباء وسذاجة وتواضع ذهني في استشراف المستقبل وقراءة الواقع..
وها هو العهد السلماني يضرب بيد من حديد، لا تعرف اللين ولا التساهل ولا التردد، وإذا هم (أجبن من حُبارى) كما يقول العرب، والأهم من ذلك أن الأغلبية الصامتة إبان تسلطهم، تحركوا بشكل جعل الانفتاح والتطبيع مع ثقافة العصر، يحظى بقبول اجتماعي، بهَرَ كل المراقبين، وأكد للكبار والصغار أن ما يظنونه نمراً كان في حقيقته (نمراً من ورق) يمثل التنمر والشجاعة.
المهم الآن أن نتعلم من أخطاء الماضي، وأن نتتبع جيوبهم في كل مكان وزاوية، ونتنبه إلى أن أسلوب (التزهيد بالحياة) والترغيب بالموت وكراهية الدنيا، كانت وسيلة تكتيكية، جعلت الشباب صغار السن (يضطربون) نفسيًّا، ليتمكنوا من السيطرة على أذهانهم، ويزجون بهم في حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فالشاب الغر إذا عملت على تخويفه، وحولته إلى كائن رعديد مضطرب مأزوم، فإن بإمكانك أن تحوله إلى عجينة تُشكلها وتزرع في قناعاتها ما تريد، بالشكل الذي يجعله كائنًا عدوانيًّا شريرًا ضد نفسه وضد الناس، حتى لو طلبت منه أن يفجر نفسه لاستجاب.
وأنا على يقين لا يخالجه شك أن الانفتاح الثقافي والترفيهي والفني والرياضي والسياحي، سيحاصر التأسلم السياسي العنيف، وينقله حتمًا من الجغرافيا إلى التاريخ، وهذا غاية المطلوب.
إلى اللقاء