د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في فترة صعبة من التاريخ الأندلسي، وبعد أن تقلص النفوذ الإسلامي حتى اقتصر على غرناطة وما حولها، وكان بنو نصر هم قادتها، لم يكن النفوذ النصر كاملاً، فالدولتان المسيحيتان القويتان قشتالة وأرجوان قبل اتحادهما، يمارسان ضغطاً متواصلاً على غرناطة وحكامها، وكان على أي حاكم غرناطي أن يراعي هذا الواقع، ويدفع لهذا وذلك شيئاً يتجنب به مواجهة غير متكافئة، لاسيما أن المرينيين في المغرب غير قادرين على المناصرة، فهم في صراع فيما بينهم، كما أن وضعهم العسكري والاقتصادي والإداري لا يؤهلهم للمواجهة أو المناصرة، بل إن حاميات قشتالية كانت تتواجد دائماً في فاس أو غيرها مثل مراكش.
في ظل وضع كهذا ومع هذا الواقع، لم يكن بنو نصر بأحسن حالاً فيما بينهم، فقد قام إسماعيل بن أبو الحجاج على أخيه الغني بالله حاكم غرناطة، وحاول الوصول إليه ليقتله، لكنه كان نائماً في مكان ملحق بالقصر، وبعد أن سمع الضجيج، فر مسرعاً مع بعض أعوانه، واستطاع أن ينجو بنفسه، ويذهب ليكون ضيفاً على أبي فارس ابراهيم المريني بالمغرب، الذي رحب به وأكرم وفادته.
بعد أن استقر به الحال، أخذ ينظر فيما يمكن فعله لاستقدام أهله وذويه، وقد اجتهد السلطان المغربي في الإلحاح على الحاكم الغرناطي الجديد، واستمر في إلحاحه.
في ذات الوقت قبض إسماعيل الحاكم الجديد لغرناطة على وزراء أخيه، ومن ضمنهم الوزير ابن الخطيب، واصطفى أموالهم، وقد توسط أبي فارس المريني لدى إسماعيل أن يطلق سراحه وعائلته، ففعل بعد تردد، ووصل ابن الخطيب إلى فاس، وعاش في سلا بقرب الرباط كما تم ذكره في مقالات كثيرة سابقة.
ما تجدر الإشارة إليه هو الحالة النفسية والاضطراب الذي عاشه ابن الخطيب في تلك الفترة، فقد فقَد الوطن، والمال، والأهل، والأصدقاء، والمنصب أيضاً، لكنه لم يفقد الكلمة والأدب والشعر، والطموح الذي ظل يصاحبه حتى أرداه قتيلاً بتهمة الزندقة.
كان عمر ابن الخطيب في ذلك الوقت نحو ستين عاماً، وهذا العمر في ذلك الزمان يعتبر كبيراً، أما في زماننا هذا فهو عمر يكون فيه المرء كالفتى، بتوفيق من الله أولاً، وبالمحافظة على كمية ونوعية الغذاء والرياضة. ففي فترة ابن الخطيب كان الوعي الصحي ليس كما هو الآن، والعناية الصحية أقل بكثير، لاسيما أنه عاش وزيراً، ومن أسرة كريمة لها قدرها الكبير، وكانت موائد اللحوم والحلوى والزيت والسمن موجودة على مائدته، مما يعني أن غذاءه سيئاً، بينما محدودي الحال، يأكلون الشعير، ولا يركبون البعير، يسيرون على الأقدام، ويكثرون الصيام، ولهذا فإنهم ينعمون بصحة أفضل، ولياقة أكمل.
لقد ماتت زوجته أم ولده، فزادته اكتئابا، ومع ذلك أراد أن يخرج من وضعه النفسي، فطلب من السلطان المريني أن يهديه أحد جواري القصر، فأهداه جارية حسناء، ذات جمال وبهاء، وأشغل نفسه بكتابة التاريخ، وكان لا يتردد أن يطلب مالاً من هذا وذاك، فقد ضاقت به الحال، رغم أن السلطان قد أجرى له خمسمائة دينار، مع ما يلزمه من مأكل ومشرب وملبس، لكنه عاش ميسور الحال في صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، ثم أصابته هذه النائبة، وأصبح لاجئاً فاقداً وطنه، ولا يمكن لأي شخص أن يستطيب لذة العيش إلاّ على تراب وطنه، وبين مجتمعه.
لقد خاطب أصدقاءه، وسلاطين زمانه، والعلماء من أقرانه، مثل ابن خلدون، وأبي عبدالله بن النفيس، والرحالة ابن بطوطة، والسلطان أبي عبدالله، بعد قدوم عائلته من الأندلس، وسأقف عند رسالتين أحدهما أرسلها لابن مرزوق، صاحب السلطان المغربي، وفيها اشتكى خادم السلطان، الموكل بالجراية للقادمين من الأندلس من ذوي الشأن، واسمه ابن الربيب، وفيها يذكر أنه يقصر في حقهم، ولا يمنحهم ما أمر لهم السلطان به، وفي رأيي أن هذا أمر فيه تجاوز، فابن الخطيب ضيف، والأولى أخذ ما يصل إليه دون تذمر، ورفع شكوى، ويقول شعراً في قصيدته الطويلة:
غدوت لضيم ابن الربيب فريسة
فيما ثار من قومي لنصري ثائر
إذا التمست كفي لديه جرايتي
كأني جان، أوبقته الحرائر
وما كان ظني أن أنال جراية
لا يحكم في جرائها في جائر
إلى آخرها.
والرسالة الثانية خاطب بها، علي بن بدر الدين بن رحو، وفيها أظهر رغبته في مرافقته للأرض الحجازية لقضاء فريضة الحج، لكنه لم يفعل، وهذا يدل على اكتئابه وتردده، فالمكتئب في الغالب يهم ولا يفعل، ويقدم ثم يجفل، يرى السير عسراً، والقادم شراً مستطيراً، ولو أنه ارتبط بربه وتيقن، وانزرع الإيمان في قلبه وتمكن، لرأى أن أبواب الله واسعة، وفضله ورحمته بعباده ترد كل قارعة.
وفي دلالة اكتئابه ومأساته، ما قاله في هذه الرسالة، حيث يقول: وأما حالي فما علمتم، ملازم كِنْ، ومحبط تجربة ويمن، أرجئ الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، ملئ القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد.
هكذا كان، وهكذا أحوال الزمان، والله المستعان.