د. رضا المنسي
النقود اختراع بشري وكائن اجتماعي دائم التغير وفقا لظروف المجتمع ودرجة تقدمه. كانت بداية الأمر نقودًا سلعية، ثم تحولت إلى معدنية، فورقية، ثم ظهر الشكل الأكثر حداثة والمتمثل في النقود الائتمانية، وأخيرًا طفا على السطح ما تم تسميته بالنقود الإلكترونية. ما هو شكل النقود بعد خمسين عامًا في المملكة أو في غيرها من دول العالم؟ الإجابة لا نعلم. تفاجأ طلابي وأنا أحاضر لهم في موضوع تطور النقود عندما علموا أن النقود لدى أجدادنا كانت عبارة عن أبقار أو قمح أو تمر...الخ. وزادت دهشتهم عندما قلت لهم إن الدكتور رضا بعد خمسين عامًا لو حقق وظائف النقود لصار هو النقود. وأصبح من المسلم به أن أي شيء يحقق وظائف النقود يصير نقودًا أيًا كان شكله أو مادته أو لونه.
استمرت مرحلة النقود المعدنية من الذهب والفضة التي تستمد قيمتها من ذاتها فترات زمنية طويلة في حياة البشرية، لدرجة أن الفطرة الإِنسانية جُبلت على أن الأصل في النقود والقيمة هي الذهب والفضة، وهو الأمر الذي أقره القرآن الكريم عندما أشار إلى النقود بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ....}. لم يدر بخلد البشرية في السابق بأنه سيأتي اليوم الذي تتحول فيه النقود من ذهب وفضة تكتسب قيمتها من ذاتها إلى أوراق مطبوعة تكتسب قيمتها من قوة القانون ولا تكلف الدولة إلا عددًا من الأوراق وكميات من الأحبار. النقود الورقية كانت مغطاة بادئ الأمر بالذهب، أي حق حائزها في استبدالها بذهب أو فضة من البنك المركزي (مؤسسة النقد) في أي وقت شاء، إلى أن تخلت النظم النقدية المعاصرة عن آخر أطوار قاعدة الذهب على المستوى العالمي منذ عام 1970م، وترتب على ذلك مشكلات نقدية أهمها عدم استقرار قيمة النقود الورقية، وما نشأ عن ذلك من اختلال في عدالة العلاقة بين المقرضين والمقترضين. فلو قام شخص (مقرض) بإقراض شخص آخر (مقترض) ثلاثة آلاف ريال في بداية العام على أن يردها المقترض نهاية العام، وكان المقرض ينوي في بداية العام أن يشتري بالثلاثة آلاف ريال ثلاجة أكثر حداثة من ثلاجة منزله، إلا أنه أجل ذلك إلى نهاية العام وآثر تفريج الضائقة المالية لصديقه المقترض. عندما حل موعد الاستحقاق ورد المقترض المبلغ ذهب المقرض نهاية العام لشراء الثلاجة فوجدها بأربعة آلاف ريال. هنا تملكته الحسرة وعصره الندم، ولو عاد به الزمن إلى الوراء لأشترى الثلاجة وما قام بإقراض صديقه. فالمقترض قد استفاد من القرض في حين وقع الضرر على المقرض، يكفي الأخير شكرًا أنه ضحى بالاستفادة بنقوده لمدة عام، وتقتضي أبسط قواعد العدالة أن تُرد له نفس قيمة ما أقرضه وليس قيمة أقل.
لن أدخل بالطبع في ميدان ليس بميداني وهو الفتوى بالحل أو الحرمة، ولكني أتكلم من منطلق واقع أرى أنه يخدش مبدأ العدالة في علاقة المقرض بالمقترض الذي يعد من أهم المبادئ التي أقرها الإسلام. أنا مسلم أغار على ديني وعلى تطبيق جميع أحكامه وقيمه التي من أهمها تحريم الربا. وبقاء هذه الإشكالية يفتح الباب للمتربصين بالقول بعدم صلاحية الإسلام للتطبيق في العصر الحديث وعدم قدرته على تسيير الأوضاع البنكية والنقدية المعاصرة. لا نطلب أن يسترد المقرض قيمة أعلى من القيمة التي أقرضها، فهذا هو الربا بعينه (كل قرض جر نفعًا فهو ربا)، ولكن ما نطلبه أن يسترد نفس قيمة ما أقرضه لا قيمة أقل، من غير نفع كي لا ندخل في ميدان الربا، وكذلك من غير ضرر كي لا نخل بمبدأ العدالة.
لقد حث الشرع الحنيف على القرض حثه على الصدقة، إضافة أن القرض له دلالات وأبعاد إِنسانية تشير إلى تكافل الأفراد فيما بينهم والتيسير على عدد غير قليل من أفراد المجتمع ذوي العوز والحاجة. وفي الفترة من حياة البشرية التي كانت النقود فيها ذهب وفضة لم تنشأ إشكاليات تُذكر تتعلق بانخفاض قيمة النقود أو ما نسميه بالقوة الشرائية لها، فالمقترض الذي اقترض 20 دينار ذهب خلال أجل محدد وهو عام، سيردها بعد عام عشرين دينار ذهب للمقرض. إلا أنه بعد ظهور النقود الورقية وظهور الإشكالية المذكورة أعلاه سيحجم المقرضون ذوو الفوائض المالية بلا شك عن إقراض المحتاجين وسيتآكل خلق راق من أخلاق ديننا الحنيف وهو خلق التكافل في المجتمع، لدرجة أنه يوجد مثل شعبي رائج في المجتمع المصري وهو (السلف تلف والرد خسارة).
رغم حرصي على عدم الدخول في ميدان ليس بميداني وهو (الفتوى)، إلا أنني لدي ما أقوله للتعامل مع هذه الإشكالية من منطلق طبيعة تخصصي. يتم تصميم صك نسميه «صك القرض»، وتكون صيغته كالتالي: (أقرض الشخص (أ) ثلاثة آلاف ريال إلى الشخص (ب) في 1/ 1 والتي تعادل 15 جرام ذهب، على أن يرد الشخص (ب)..... آلاف ريال في 30/ 12 والتي هي ثمن 15 جرام ذهب). المبلغ الذي سيرده الشخص (ب) الذي ستتحدد قيمته وقت الاستحقاق قد يساوي أو يزيد أو يقل عن الثلاثة آلاف ريال، ولكن في حقيقة الأمر يكون الشخص (ب) قد اقترض 15 جرام ذهب وردها 15 جرام ذهب، وهو ما يمثل عودة إلى ما كان معمولاً به قبل ظهور النقود الورقية وإشكالياتها وربطًا بالقيمة الحقيقية التي تعارفت عليها البشرية آلاف السنين وأقرها القرآن الكريم وهي الذهب والفضة. وإذا اشترط الشخص (أ) رد 16 جرام ذهب لكان الجرام الزائد هو الربا بعينه. وإذا أصبح ثمن الـ15 جرام ذهب هو ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال في 30/ 12 بدلاً من ثلاثة آلاف ريال، ورد المقترض في موعد الاستحقاق ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال رغم اقتراضه في بداية العام ثلاثة آلاف ريال تكون الخمسمائة ريال الزائدة ليست زيادة في قيمة حقيقية، وإنما زيادة في عدد أوراق لا قيمة لها في حد ذاتها... إنها ربا حلال.