د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ما الذي شاءه محمد عابد الجابري 1935-2010م حين خصص مشروعه الأهم لدراسة العقل العربي؛ فهل لدينا عقل عربي واحد تمكن دراسته؟.. وماذا عما يقابله في الاتجاه الآخر كالعقل الغربي مثلاً وفق ما درسه مفكرون أمثال مطاع صفدي 1929-2016م؟.. وهل ثَم عقول أخرى صينيةٌ وروسيةٌ وإفريقية وآسيوية تستحق مشروعاتٍ مماثلةً لدراستها؟.. والاستفهامات هنا تتجاوز دلالات العقل الجمعي في منطقة ما؛ فثمة من يرى الحضارة في أساس بنيتها منتميةً إلى أرضٍ أو إلى قومٍ أو إلى عرقٍ محدد، ومنهم من توقف به زمنه عند مرحلةٍ تأريخيةٍ رآها منطلق التكوين وما عداها تابعٌ لها أو فرعٌ عنها.
طرأت هذه «الهواجس» وقت تأملٍ غير عابرٍ في كتابٍ كبيرٍ ذي أربعة أجزاء ترجم جزأَه الأولَ المجلسُ الأعلى للثقافة في مصر ضمن «المشروع القومي للترجمة» لأستاذ علم السياسة في جامعة كورنيل (مارتن برنال 1937-2013م)، وهو كتاب صدر بالإنجليزية عام 1987م، وأحدث ضجيجًا قد يكفي للإشارة إليه عنوانُه: (أثينة السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية) واختص هذا الجزء بعنوانٍ فرعيٍ وهو: (تلفيق بلاد الإغريق 1785-1985م).
** كان الفضل في تصفح صاحبكم الكتابَ استعارتَه من أستاذه وصديقه د. حمد المرزوقي بعد حوارٍ قريبٍ بينهما، واللافت فيه سعي مؤلفه -عبر أكثر من سبع مئة وخمسين صفحة- لإثبات أن إفريقية منبعُ العقل والحكمة وأن حضارتها ذاتُ أصولٍ سامية مهمشًا الدور المحوريَّ للإغريق في صناعة الآداب والفنون والعلوم، ومؤكدًا -وهو الأكاديميُّ البريطانيُّ- إسهامَ الحضارات الشرقية -ومنها الحضارة المصرية- في تكوين العقل»العالمي» بما يعيد النظر في كثيرٍ من المعطيات التأريخية المتداولة؛ فـ»برنال» -باختصار- يقول: إن إفريقية أصلُ الحضارة الغربية.
** واكب الضجيجَ حوله إنتاجُ فيلم سينمائي حمل العنوانَ نفسه :(أثينة السوداء)، وأوضح الدكتور أحمد عثمان محرر الترجمة -التي أنجزها خمسة أساتذة- أن المؤلف لم يكن أول من أيقن بالأصول الشرقية للحضارة الإغريقية، مبينًا كرهه للعنصرية وميوله اليهودية ضمن حماسته للسامية، عدا الحدة والمبالغة وبعض الاستفزاز.
** الكتاب صادمٌ لمن وقفت بهم أذهانُهم في زاويةٍ ضيقةٍ تعتمد تصنيف الحضارات وفق انتماءاتهم أو توقعاتهم أو رغباتهم فتقزمت برؤاهم حقبٌ وتضخمت أخرى، وبات الحديث عنها محكومًا بمقدماتٍ ثابتةٍ ونواتج قاطعة، وهو ما لا يمكن التسليمُ به مثلما لا تصح أقلمة العقول وما يحمله ذلك من تصنيفٍ وتعليبٍ للعقل العربيِّ «الذي يعنينا هنا» في مواجهة العقل الغربيّ ووصم الأول بالتواري حدَّ الانطفاء والثاني بالتجلي وتجاوز الغبراء؛ فالحضارةُ تركيم جهودٍ أمميةٍ على المدى لا فضل فيها لعنصرٍ بشريٍ دون الآخر، وإنما هي أدوارٌ تتكامل وتتفاعل.
** الحضارةُ كيانٌ لا مكان.