د. جاسر الحربش
تحمست للكتابة في هذا الموضوع بعد أن علمت مؤخراً أن وزارة الصحة أوقفت بدل السكن الذي كانت تدفعه للطبيب المكلف بالعمل خارج منطقة إقامته، وكأنها لا تراعي ظروف مغادرته منزله وأهله واستئجار منزل في مقر عمله الجديد، لتقوم بقطع بدل السكن الذي هو من حقوقه. صرف بدل السكن النقدي يعتبر حقاً مستمراً لمن يكلف من الأطباء والطبيبات في مناطق بعيدة عن مقر الإقامة حتى لو وفرت الوزارة لهم سكناً في منطقة التكليف، باعتبار أن التكليف بحد ذاته معاناة شخصية وعائلية بما فيه الكفاية.
عندما انفجر الوباء الفيروسي كورونا فجأة قبل بضعة أعوام كان ضمن المصابين به في البداية عدد من الأطباء، مما أدى إلى الإغلاق المؤقت لبعض المستشفيات الحكومية. قبل ذلك حدث نفس الشيء مع أوبئة فيروسية سابقة، لأن الطبيب يباشر الفحص على المراجع قبل أن يتعرف على نوع الإصابة الماثلة أمامه وخصوصاً في أقسام الطوارئ والعيادات الخارجية. مهنة الطبيب تشبه إلى حد كبير مهنة العسكري المرابط على الجبهة في التعرض للأخطار المعيقة أو المميتة، ما عدا أن الطبيب يكون مرابطاً على الجبهة الصحية طيلة أيام السنة باستثناء الإجازة. لن أتعرض لظروف العسكري المادية مقابل الأخطار الجسيمة المعرض لها، لأن ذلك ليس من اختصاصي وله من يخوض فيه عن خبرة ميدانية. أريد أن أتعرض لأحوال الطبيب السعودي كمرابط على الجبهة الصحية وأبدأ بهذه الحقائق: يتعرض الطبيب مهما حاول التحوط الوقائي لأخطار العدوى كل يوم، ويعمل في أجواء ملوثة بإفرازات المراجعين والمنومين من كل المخارج الطبيعية ومن الجروح والإصابات ويتعايش نفسياً مع إحباطات المصابين بالأمراض الخبيثة والمزمنة التي لم يعثر لها الطب بعد على العلاج الشافي، وكذلك مع انفجارات نفسية عنيفة هنا وهناك من بعض المراجعين وأقاربهم قد تصل أحياناً إلى محاولة قتل الطبيب أو الضرب المبرح. بالإضافة إلى ذلك مطلوب من الطبيب مناوبات ليلية دون تعويض مادي وأن يتحلى بأعلى درجات الصبر والإنسانية تحت كل الظروف.
أقول لا بأس فتلك مهنة الطبيب التي اختارها منذ التحاقه بكلية الطب، ولكن ماذا عن التقدير المادي والمعنوي الذي يستحقه مقابل الأخطار والمرابطة الميدانية الصحية على مدار العام ؟ عندما كنت طبيباً تحت التدريب للتخصص في ألمانيا كنت أستلم من المستشفى راتباً أعلى من مرتب الموظف في البنك والشركة عندهم كحق طبيعي لي كطبيب. بعد عودتي إلى الوطن والعمل في القطاع الصحي الحكومي بدأت أشعر بالغبن مقارنة بموظف البنوك والشركات الكبرى، حيث تكون مرتباتهم أضعاف مكافأة الطبيب مع العمل في أجواء مكيفة لا فيروسات فيها ولا بكتيريا ولا معاناة نفسية من المصابين بالأمراض الخبيثة والأعضاء المبتورة. مع ازدياد الشعور بالغبن غادرت العمل الحكومي وأنشأت عيادتي الخاصة وتحسنت أحوالي العائلية كثيراً، وما زلت أرثي لأحوال زملائي في القطاع الصحي الحكومي.
إذاً ما هو الوضع الحالي للطبيب السعودي في القطاعين الحكومي والخاص ؟. في القطاع الحكومي يتعرض الطبيب للأخطار اليومية المذكورة أعلاه والمناوبات الليلية دون مقابل ويستلم مرتباً لا يقاس ولو عن بعد بما يستلمه زميله في القطاع الطبي الخاص أو الموظف في البنك والشركة الكبيرة، ولذلك يشعر بالغبن. على المواطن ألا يستغرب إذا لاحظ درجات متدنية من الإخلاص للمهنة الطبية بسبب الإحباط والشعور بالتعاسة. البيروقراطية السعودية في الخدمة المدنية ومن ضمنها المهن الصحية لا تفرق كثيراً بين المهنة الصحية ومهنة الموظف في إحدى الدوائر الحكومية.
ثم ماذا عن الطبيب الذي يعمل بعقد عمل في القطاع الخاص ؟. هنا تكمن داهية من دواهي التناقضات الإنسانية في المهنة الطبية، حيث يسابق الطبيب الزمن للحصول على أفضل نسبة مالية من تكاليف الفحوصات التي يفرضها على المريض أو شركة التأمين. أكثر المستشفيات الخاصة تعمل بهذه الطريقة، الطبيب يحصل على مردود شهري أكبر كلما حقق للمؤسسة الطبية الخاصة دخلاً أكبر.
باختصار: في القطاع الحكومي يتعرض الطبيب السعودي لغبن مادي وضغط عائلي ومعيشي خانق، مما يدفع به للإحباط وما يترتب على الإحباط من سلبيات الممارسة. في القطاع الخاص يتعرض الطبيب العامل بعقد عمل لإفساد الذمة بالإغراء المالي الذي يتناسب طردياً مع ما يحققه للمستشفى من دخل. أحياناً تصل الأمور إلى درجة أن بعض الأطباء يكتب طلبات الفحوص المخبرية والإشعاعية والمنظارية دون أن يفحص سريرياً على المريض لتوفير الوقت، وذلك ما يؤكده لي كثيرون من المراجعين القادمين من مؤسسات طبية خاصة.
إذاً على المواطن في مثل هذه الظروف ألا يتوقع من الأطباء التفاني في الأداء، لا في الجوانب الإنسانية ولا المهنية، لأن العمل في هذه الحالة من جنس الجزاء، ويصبح الجزاء من جنس العمل بعد حصول الطبيب على حقوقه مثل زملائه في الدول الغنية الأخرى.