د.فوزية أبو خالد
قطرة رابعة
كانت القطرة الثالثة عن لمحة سيرة الصداقة والمشتركات الإبداعية والوطنية التي تقاسمت ملحها وحبرها مع الفنانة التشكيلية الفذة منيرة الموصلي قد وصلت في مقالي الأسبوع الماضي عند نقطة منجم الطفولة الملغم بالمفاجآت المدهشة الذي اكتشفته لطفلة مرحة حرة مجلجلة الضحكات اسمها منيرة الموصلي من خلال إيقاع المعيشة اليومية لحياة تلك الفنانة جللها الرحمن بأجنحة رحمته.
لاحقًا وبعد سنوات عدة من وداعنا بمطار بورتلاند أوريجن بأمريكا وعودتنا لأرض الوطن حيث توجهت منيرة للعمل كمسؤولة إعلامية وثقافية بشركة أرامكو للبترول بالمنطقة الشرقية بجانب شغفها التشكيلي, وقمتُ بالعمل بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود بالرياض بالإضافة لالتزامي بالكتابة، وقفت معي منيرة الموصلي وقفة شهمة مثل العديد من مواقفها المعتادة مع قضايا الضميرعلى ذلك المنوال الشريف. وقد تجلت رمزية ذلك الموقف في المحاضرة التي أقامتها لي بمقر أرامكو في شهر رمضان من العام 1408 هـ (1987) بحضور جمهور عريض من الوسط الغربي والعربي والسعودي للمنطقة الشرقية، وذلك مباشرة بعد توقيفي عن عملي كمحاضرة بالجامعة. وأذكر أن موضوع المحاضرة كان عن «انتفاضة أطفال الحجارة التي كانت متأججة وقتها, وعن الوقفة السعودية معها». وقد مهدت منيرة للمحاضرة بمقدمة كتبتها بنفسها وما زلتُ أحتفظ بنسخة منها بخطها التشكيلي المميز في قلبي وفي مكتبتي للتاريخ, وقد كان مما جاء فيها مما أستعيره من الذاكرة قولها: «الإيقاف عن التدريس كالإيقاف عن الكتابة أو رسم أو نحت أو سواها من أشكال التعبير هو غيمة تظهر ولا تلبث أن تبددها شمس الحقيقة عندما يكون التعبير حق إنساني صغير عن حب المعرفة وحب الحياة وعشق النهوض بالأوطان».
قطرة خامسة
فيما كنت أُعد لتلك المحاضرة ببيت صديقتنا المشتركة د. نوال الحسن بمجمع أرامكو تركتني منيرة أنشغل عن أطفالي بأطفال الحجارة وقامت بكل حب بممارسة كل طفولتها وأمومتها معًا تجاه أطفالي وأطفال عدد من أصدقائنا المشتركين الذين جمعتهم في «متحف بيتها» في ذلك اليوم الرمضاني. فأقامت لهم ورشة رسم ومسرح عرائس وخبزت معهم ولهم أرغفة الموز وفطائر التفاح. ولا بد أنها رغم طفولتها الغريزية ومرحها في حضور الأطفال قد احتاجت أن تمارس معهم صبر الأم تريزا وهي تعطي اثنين منهم مفرش المائدة الثمين المنقوش بريشتها بألوان المستكا والكهرمان والرمان ليساعداها في فرشه على الطاولة فإذا بهما يقصانه من الأطراف لأنه كان طويلا على الطاولة، هذا عدا عن كسر مرآة كبيرة معشقة الإطار. وما زال الأطفال بعد أن أصبحوا نساء ورجالاً يحتفظون بتلك الحجارة التي علمتهم منيرة يومها كيف يكتبون عليها عبارات إشادة ومساندة لانتفاضة أطفال الحجارة.
كان عشق منيرة الموصلي للطفولة مثل عشقها لفلسطين وعشقها للريشة والألوان جزءًا من تركيبتها الوجدانية كتشكيلية وكأنثى وكإنسانة مفطورة على عشق الجمال والبراءة والعدل. ولهذا ربما كان اهتمام الفنانة منيرة الموصلي بمسابقة أرامكو لرسوم الأطفال عبر مختلف مناطق المملكة يكاد يكون جزءاً من تكوينها التشكيلي مثلما اهتمامها بالنضال وبالفن التشكيلي الفلسطيني بدءاً من تطريز النساء الفلسطينيات إلى منحوتات الفنانة منى السعودي.
قطرة سادسة
لا أنسى منيرة الموصلي في مساء رمضاني أيضًا ولكن بعد استضافتها لي بمحاضرة أرامكو بسنوات وبالتحديد في 1413 هـ (1993م)، وقد سعيتُ بنية الاستشفاء من اكتواءات تجربة مؤلمة كنت شخصيًّا أمر بها، لحضور معرضها التشكيلي المشترك مع الفنانة السودانية آمنة عبدالله الذي أقامته بصالة روشان بمدينة جدة. كان المعرض مهرجانًا غجريًّا متطرفًّا فريدًا بين يسار الألوان ويمينها إن صح التعبير. لم يكن معرضًا بالمعنى التشكيلي التقليدي لأنه كان عبارة عن سٍفر نسوي من النسيج بمختلف الألوان البهارية الحارقة. وقد قامت الفناناتان بدل الاعتماد في الرسم على «كنفس» اللوحة المعتاد باختراع مواد جديدة للرسم عليها. فكانت اللوحات مكونة من أشكال متعددة ومتداخلة من النسيج, من ليونة الحرير ونعومة القطن إلى كبرياء التفتة والأورجنزا وتواضع الخيش والليف. لوحات على شكل أشرعة على شكل شالات على شكل قمصان على شكل طرح عرائس على شكل طيارات ورق على شكل أغطية أطفال وملفات مواليد جدد.
كان المعرض من أبدع معارض الفن التشكيلي التي حضرتها في حياتي لمنيرة الموصلي وقد استطاع ذلك المعرض أن ينسف تمامًا تلك الجفوة التي كنت أجدها أحيانا في نفسي تجاه العديد من أعمال الفنانة منيرة الموصلي وخاصة ما كان شديد التجريد وشديد الغموض بالنسبة لذائقتي التشكيلية العادية. وقد شاركني ذلك الإحساس الجمالي العالي في ذلك المساء الرمضاني البعيد عدد من ذويقة الفن وأعمدة الإبداع والشعر ممن حضروا خصيصًا من مناطق الملكة المختلفة للمشاركة في حضور المعرض وكان منهم على ما أذكر الشاعر علي الدميني, الشاعر أحمد الملا، القاصة فوزية العيوني، الأستاذ الأديب إبراهيم الحميد، الروائي والكاتب سعد الدوسري, ومن جدة المبدع عبدالعزيز المشري -رحمه الله- وأخوه أحمد المشري والشاعر عبدالله الخشرمي والشاعر أحمد عايل فقيهي والصحفي مصطفى إدريس الله يرحمه بصحبة شقيقته الخنساء.
قطرة سابعة
لا بد أن أعترف بأنني أدين لمنيرة الموصلي بلقائي بعدد من أجمل الصداقات القريبة الغالية من صداقة العمر التي كان بعضها قد نشأ وتوطد قبل اللقاء عبر عرائش الكتابة والإبداع. فأول مرة ألتقي بفوزية العيوني وهي عروس بعد مع زوجها الشاعر علي الدميني عام 1980 كان في المتحف الفني الخلاب بمجمع أرامكو وهو ليس إلا بيت منيرة الموصلي.
وفي نفس بيت منيرة التقيت لأول مرة بالشاعرة بديعة كشغري وبالفنانة التشكيلية منى النزهة.
وأول مرة ألتقي كاتب الأمل والألم صاحب روايات الغيوم ومنابت الشجر والوسمية والمغزول ومئات القصص المبدع عبدالعزيز المشري كان بالمنطقة الشرقية في حضرة منيرة الموصلي مع والدته وشقيقه الأوفى أحمد مساه الله بالخير.
وكانت منيرة الموصلي أيضًا هي من عرفتني على الصديقة فاطمة الشيخ وشقيقها الصحفي المميز شاكر الشيخ -رحمه الله- وزوجها وكان خطيبها وقتها الشاعر محمد الدميني الذي (بعد ربع قرن من ذلك اللقاء الذي لم نكن فيه أمهات وآباء بعد), أصبح نسيبي وجد أبنائي عبدالرحمن ومحمد أبناء ابنتي لينا وابني غسان. كما كانت منيرة هي أيضا دليلي الإبداعي للاقتراب من التجربة الإبداعية لزميلنا الفنان التشكيلي عبدالرحمن السليمان ليهديني أجمل رسومات الأطفال لقصة طيارات الورق. وقد أسدت لي منيرة جميلا آخر مشابهًا عندما جمعتني بالفنانة التشكيلية آمنة عبدالله وقدمت لها بحماسها المعتاد قصة أخرى من أعمالي للأطفال للفنانة حيث رسمت آمنة كتاب «طفلة تحب الأسئلة». يكمل الأسبوع القادم بمقال أخير عن الفنانة التشكيلية منيرة الموصلي -رحمها الله-.