د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كتب الزميل الدكتور زياد الدريس مقالاً جميلاً في صحيفة الحياة في عدد 9/2 بعنوان «صخر اللغة العربية»، طرح فيه أفكارًا أخرى تتعلق باللغة العربية وسبل الحفاظ عليها، وقد وددت أن أبادله بعض الملاحظات حولها فمثل هذه الأفكار يتداولها الكثير من الكتاب دونما سند علمي. فمثلاً، كتب الدكتور زياد: «ظللت سنوات طويلة منشغلاً بسؤال: أيهما أكثر تهديداً للغة العربية، اللغات الأجنبية أم اللهجات العامية؟». وهو هنا وضع اللهجات العامية في قالب واحد مع اللغات الأجنبية في علاقتها مع اللغة العربية. ولعل ما قصده الزميل زياد باللغة العربية هو اللهجة العربية الفصحى التي كانت عامية يومًا ما، أي أنها علميًّا، لهجة من اللهجات اعتبرت فيما بعد معيارًا نعتز به جميعًا لأن القرآن نزل بها، وهي كما يشاع لهجة آل النبي عليه الصلاة والسلام وقبيلة قريش. وقد حوى القرآن الكريم، كما هو معروف، كلمات من لغات ولهجات أخرى ذكرها الباحثون في كتبهم وصنفوها. ولكن كل ذلك لا يمنع من كون اللهجات العامية الأخرى لهجات عربية تعايشت دومًا وما زالت تتعايش مع اللغة الفصحى. وقد اعتمد الباحثون العرب المحدثين عبارة «اللغة العربية المعيارية» لتصف اللغة التي تستخدم في الكتابة ووسائل الإعلام الحديثة وهي غير الفصحى المتوارثة، ولا أحد اليوم يكتب أو يستعمل اللغة الفصحى القديمة التي نمجدها جميعنا. وقد داخل الفصحى الحديثة، العربية المعيارية، الكثير من المصطلحات، والتعابير، والتراكيب المستعارة من اللغات الأخرى، ومن اللهجات العامية، ولذا لا يمكن القول إن اللهجات العامية العربية تهدد اللغة العربية وهي جزء منها.
وأردف الزميل: «قبل أن أقترب من جواب أن اللغات الأجنبية أشد تهديداً...، وأعني بذلك الاعتقاد الذي يتنامى عند الجيل الجديد خصوصاً بأن اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الهوية بل هي وسيلة للتواصل فقط.» وهو هنا انتقل من تهديد اللغات الأجنبية واللهجات المحلية إلى تهديدٍ «بالاعتقاد» وهو أمر مختلف جدًا! ولا يختلف أحد مع الدكتور زياد فيما ذهب إليه من اللغة، أي لغة، أكثر من وسيلة تخاطب، وأنها مجازيًا تعكس هوية متكلميها، بل ونزيد على ذلك بالقول إن هناك من ذهب إلى أن القوم يرون العالم من خلال لغتهم، وأننا نعيش في عوالم متعددة بتعدد لغاتنا ولا نعيش في عالم مشترك واحد، أي أن لغتنا هي مجموعة القوالب اللسانية والفكرية التي تتحكم في طريقة رؤيتنا للعالم وفي تفكيرنا وليس في هويتنا فقط. وأُطلق على ذلك مصطلح «الحتمية اللسانية»، ويتبعها كذلك أن رؤيتنا للعالم الخارجي نسبية للغتنا «النسبية اللغوية». وهذه فرضية معروفة لجميع دارسي اللغة توسم بفرضية «سابير وورف»، نسبة للعالمين الإناسيين (الأنثروبلوجيين): إدوارد سابير وبينجامين وورف. ومع أن بعض الباحثين يختلفون مع حتمية تحكم اللغة في رؤية متكلميها للعالم إلا أن قلة من ينكرون تأثير اللغة على رؤية العالم. ولذا فاللهجات العامية تعكس رؤى مختلفة للعالم ضمن رؤية عامة افتراضية هي العربية، وهي تؤدي وظائف لا علاقة لها بالفصحى.
ويرى الدكتور زياد بأن: «التاريخ الإنساني القديم والحديث لم يسجل لنا حتى الآن حضارة قامت بغير لغتها... فينبغي أن نعي بأن اللغة العربية هي الرصيف الذي يجب أن تنطلق منه سفن الحضارة».
وهو كذلك محق فيما ذهب إليه إلا أن ذلك نصف الحقيقة فقط، إذ إن التاريخ لم يسجل لنا أيضًا أنه توجد لغة نقية لم تتأثر بلغات أخرى، وأولها العربية القديمة التي شكلت الفارسية جزءًا كبيرًا من مفرداتها فيما يتعلق بأمور الحضارة. كما أننا نتباهى بدور العربية ذاتها في تقدم العلوم الغربية، ومعروف أن اللغة الإنجليزية السائدة اليوم أكثر اللغات استعارة من اللغات الأخرى.
أما قوله إن «المعادلة الشائعة» بأن اللغة تعلو وتزدهر حين تعلو حضارتها، والعكس بالعكس.» فمبدأ المفاضلة بين اللغات واللهجات مرفوض علميًا من كافة الباحثين والمتخصصين، ولا توجد أية معايير لقياس علو اللغة، ولا يوجد علميًا من يدعم الزعم «بأن الحضارة هي التي تعلو وتزدهر حين تعلو لغتها». فاللغة في الأساس وسيلة تخاطب، وسجل لحفظ المنجزات الفكرية، ولا تنجز شيئًا بذاتها. والقول بعلاقة اللغة بالهوية قول مجازي، إذ إننا لا نملك حتى اليوم تعريفًا دقيقًا لمصطلح «هوية». ولذا سأهون على الزميل الدكتور زياد بالقول إننا لسنا في هذا الأمر بحاجة «لصرخات واستغاثات»، فناموس الحياة هو التطور والتغير، ومما أجمع عليه علماء اللسانيات الإناسية، واللسانيات الاجتماعية هو أن اللغة تتطور وتتغير ككائن حي وهي تتوقف عن التغير عندما تهجر وتموت فقط.