د.عبدالله بن موسى الطاير
تقتات الثورات على الظلم، والجوع، والأيديولوجيا. الثورات التي يضرمها الظلم تنجح باستغلال خصوم الحكومات السياسيين لها، أما التي يخرجها الجوع فلا ينتظر الثوار قيادة لها، حيث لا فرق بين الموت جوعا أو برصاص الأجهزة الأمنية. أما الثورات القائمة على الأيديولوجيا فهي في غالب الأحوال تكون على شكل انقلابات أكثر منها ثورات، ولكنها قد تلبس جلباب الثورة عندما تتمكن من التقاط أحد العاملين السابقين وأعني الظلم أو الجوع، وتنفخ فيه من روحها على اعتبار أنها تملك الحلول السحرية للمشكلات المعقدة.
يمكن تفسير ما تشهده جمهورية السودان من أحداث على أنه استنبات لما سمي الربيع العربي، تقف خلفه دول ومؤسسات ومؤامرات ومصالح غير ذات علاقة بالداخل السوداني، ويمكن الزعم بأن الجوع أخرج الناس إلى الشوارع، ويتسع المجال للقول بأن الجوع والظلم تعاونا في تفجير الغضب الشعبي. كل الروايات ذات مصداقية ولكن بنسب متفاوتة. ما حدث في السودان كانت له مقدمات يرويها السودانيون سواء أكانت تلك الإرهاصات سياسية أو اقتصادية، ولكن أكبر العناوين التي يمكن فردها على واجهة الأحداث هو الخبز.
يمكن إحالة الأزمة على الوضع السياسي، ولكن المعارضة والإعلام يجترون ذلك منذ انفصال جنوب السودان، إلا أن الناس لم تخرج للشوارع تطالب بإسقاط النظام. لحظة رفع الشعب هذا الشعار يعني أنهم وصلوا إلى حالة من اليأس من إصلاح الحال، وليس لأنهم يرون في حزب سياسي آخر بديلا أفضل.
الرئيس البشير تعلم كثيرا من الثورات التي ضربت عدة بلدان عربية، ولذلك حافظ على زمام المبادرة واستخدم الحوار جنبا إلى جنب مع القبضة الأمنية، وتمتع برباطة جاش مكنته من التحرك داخل السودان وخارجه. واتخذ خطوات إيجابية كإطلاق المعتقلين، وإعادة رخص الصحفيين.
المواطن الذي يخرج ولا يستطيع الحصول على رغيف خبز لأطفاله الذين يتضورون جوعا لا يأبه بالأسباب التي أوصلته إلى تلك المرحلة، إنه يريد إصلاحات حقيقية وعاجلة تستأصل السبب الرئيس الذي دفع به إلى الشارع.
البرود العربي في التعامل مع أزمة السودان كان لا فتا، سقوط النظام السياسي في السودان سوف يحشد شبكات التواصل الاجتماعي بميادينها الافتراضية ووسائل الإعلام الموجهة للتبشير بنسخة محدّثة من الربيع العربي لن تتوقف عجلتها في السودان، فهل كان على السودان أن يستجدي المساعدات ولا يستجيب له أحد؟ أم كان على أشقائه الذين يهمهم أمره المبادرة بتخفيف العبء عن كاهل المواطن السوداني ومساعدة السودان للوقوف على قدميه طالما هو قادر على المحاولة؟
يبدو لي أن السودان سيخرج من هذه الأزمة، بيد أنه لا توجد ضمانات عدم تكرارها إذا بقيت الظروف التي أنتجتها قائمة. كما يبدو لي أن بعض الدول التي تربطها علاقات حسنة مع السودان تدرك الآن أن عليها أن تتحرك ليس فقط لإخماد الحرائق الملتهبة، وإنما للتأكد من عدم اشتعالها ثانية، ولا بأس للدول العربية أن تكون أكثر وضوحا في معالجة الأخطاء التي يتعدى ضررها الحدود الوطنية. وفي ذات الوقت فإنه آن الأوان أن تكون قوات الأمن حامية للمتظاهرين في الدول التي تسمح بالتظاهر وليس مسلطة عليهم. فما يحدث من ضرب وسحل وقتل في عصر شبكات التواصل الاجتماعي لا يمكن إخفاءه مهما بذلت الحكومات من تعتيم.
الأنظمة التي تسمح بالعمل الحزبي عليها التعامل مع المعارضة السياسية باعتبارها شريكة في الأمن الوطني. وإذا صنعت الأحزاب الحاكمة مشكلات معقدة ومتراكمة فإنه يصعب عليها إيجاد الحلول لها، ولا يجب أن تكون هناك غضاضة في إشراك المناوئين السياسيين، فقد يكون لديهم الحلول.
صحيح أن الناس كل الناس يبحثون على الحرية والديمقراطية وحكم القانون، وهذه الشعارات الخالبة للألباب يمكن إعادة تفسيرها وتنزيلها على الواقع بالكثير من التوافق إذا اعتبرنا أن الحكم الرشيد هو الغاية، وأنه هو الذي يضمن تحقق الحرية في حدود حكم القانون. إذا أراد رئيس أية دولة مهيأة لأحداث شبيهة بما يحدث في السودان فعليه أن يعلي شأن التوافق بين أطياف المجتمع على استئثار الحزب الحاكم بالسلطة، وعلى الحكام في كل مكان أن يقودوا التغير بدلا من أن يكونوا هدفا للتغيير.