سام الغُباري
يا الله، يا من بسطت سماءً وخلقت أكوانًا وقلت «كن فيكون»، أنا هنا أجلس القرفصاء، أعبث بهاتفي كل مساء، أطالع أخبار أهل الأرض فلا أجد بقعة ملتهبة كما هي بلادي، تلك الجغرافيا المكتظة بثلاثين مليونًا من خلقك وعبادك تذبح بعضها بغير هدى. أنت تعلم يا عليم ما بأنفسهم من عناء، وما ببطونهم من خواء، وما برجالهم من جفاء، وما بأطفالهم من إعياء، وما ببعض قادتهم من ارتخاء!
وقعنا يا إلهي الرحيم في شر مكائدنا على بعضنا، فارحمنا، تجبّر علينا قومٌ كانوا يمنيين يبتسمون مثلنا، قالوا هم البشر الأرقى وقد خلقتهم من ماء مهين، استذئبوا علينا وعَدَونا كالحملان في فرار القطيع، ذبحونا أول العيد تقربًا إليك فأسلمنا رقابنا علّنا نسكن الجنة، فاستَحْلوا المهنة وصاروا جزارين، ثغاءنا ملأ الأرض وكل لحظة يُذبح فيها يمني ينساه بقية القطيع بارتباكه وفوضاه، أهلكتنا الذئاب وأنت ترى، تجبروا علينا وأنت الجبار، استقدروا علينا وأنت القادر، ضللونا في ديننا ودنيانا وأنت الهادي، تكبروا علينا وأنت المتكبر، استحلّوا دماءنا وباعوا فراءنا ودبغوا جلودنا وباعوا بلادنا وأنت العظيم الأمين، تفرّدوا بنا وأنت الأوحد الأحد، كسّروا عظامنا وأنت القوي فانصرنا عليهم.
أصرفهم يا الله عنّا، ابعدهم عن بلادي، زلزل عروشهم، اجعل بأسهم بينهم شديد، اغشهم من بين أيديهم ومن خلفهم فهم لا يبصرون. لقد بلغ الوجع أنينه الكامل، وتعالت الصرخات حتى فاقت المدى، وتراجعت الإِنسانية وحلّ الخراب وهُدِمت صوامع وبيع وأُحرِق كتابك الكريم وأنت ترى، فانتصر لنا يا الله، انتصر لعبادك الثكالى وخلقك الغلابى، اجعلنا الوارثين من عبادك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نبوء بذنوبنا إليك فأغفر لنا، أصلح ذات بيننا وأرحم أسيرنا وأشفي مرضانا وأعصم قلوب آبائنا الذين يفقدون كل يوم فردًا منهم، قطعة من لحم ودم تُنتزع من أكبادهم وتُحفي في التراب.
اسمعنا يا الله وأنت السميع، ألطف بنا وأنت اللطيف، ارحمنا وأنت الرحمن الرحيم، أغثنا يا الله وأنت المغيث، ارفع عنّا الحوثيين وأشباههم من سُلالة تدفع المسلمين من عبادك المستضعفين إلى الإلحاد والجنون. مزّقتنا الأيام وطالت علينا السنين، وتطاول أشباه الرجال، وأضاع دولتنا سفهاء القوم والحمقى الذين يتوالدون عبر الأثير في حيرة علمية وجينية صعقت رؤوس العلماء وهتكت موانع اللقاح وضربت نصائح الأطباء عرض الجسر الذي اختبأ تحته من حبات المطر النازل كأسنة السهام، ورعد المساء يشق السماء فأشعر به يدوي في داخلي، ألملم جسدي وانتفض خائفًا، يلفني سواد مهيب كثقب مجرة عملاقة تاهت في فضاء الكون فابتلعت فجيعتي ومزقتني بشهبها ونيازكها.
أنا لا أسترق السمع، وليس لي جناح مارد حتى أعاقب هكذا، أنا ضعيف ومرتعش، دون دولة وبلا وطن، لا قلبٌ حنون يضمني إليه فيهدئ روعاتي ويسكن فجيعتي في دُجى الليل المخيف.
سأخرج من تحت الجسر، وأرفع يدي في حضرت جلالك وسلطانك، أنظر إليك يا إلهي من وراء الماء المسكوب، فالسماء مفتوحة والسحاب مثقلة كقلبي، تبكي معي بدموع من مطر، سأسجد في حافة الرصيف مبتلاً كعصفور يتلفت خائفًا من كل شيء، من أعداء الموسيقى، وأعداء الحياة، وهواة الصيد، وغربان الفراغ. سأسجد لاقترب منك، أشكو بثي وحزني إليك يا خالقي، أن ترحمني وأهلي ومدينتي وبلادي من جور استطال، ومن قلوب كالحجار، ومن جحيم يوقد بعظام وجماجم الفقراء والجاهلين.
إنها اليمن التي كانت سعيدة حتى ظهر فيها قومٌ كالبشر في هيئتهم وما هم بسلوكهم وجرائمهم من البشر، كالإِنسان في تجليه وليسوا إنسًا ولا جان، كائنات ملحدة تُردد اسمك وتقسم أنك منحتهم «اصطفاءً» علينا بالنار والبارود ومجازر الليل والصباح، وحاشا أن تفعل ذلك، نعلم أنهم يكذبون عليك، ويتمالئون من أولهم إلى آخرهم، من أصغرهم إلى أكبرهم، من أعلمهم إلى أجهلهم، من أفقههم إلى أضلهم، من أخبثهم إلى أحقدهم، ومن أفسقهم إلى أجحدهم. فما يأتي منك سبحانك إلا الخير وما كان الشر إلا من أنفسنا، فأغثنا.. أغثنا يا أعظم من سُئل ويا أكرم من أجاب ويا أرحم من رَحِم.