منصور ماجد الذيابي
قبل توضيح أهمية الثقافة وعلاقتها بالعلم والحضارة، أرى أن نسلط الضوء أولا على مفهوم الثقافة من خلال التعريفات المتعددة للثقافة بشكل عام والثقافة العربية والإسلامية بشكل خاص. فالثقافة في لغة المعاجم هي الفطنة والذكاء وسرعة التعلم والفهم وتقويم العوج وتسويته. ولهذه الكلمة دلالات تدور حول الأمور الحسية والمعنوية. فتقويم المعوج وإصلاحه وتهذيبه يعتبر ثقافة بالمعنى المادي، وسرعة التعلم والفهم والإدراك والفطنة والذوق والأدب يعتبر ثقافة بالمعنى المعنوي.
وأما المعنى الاصطلاحي لكلمة «ثقافة»، فإنه يتصل بتعريفات كثيرة، ومن أسباب تعدد هذه التعريفات هو أن الذين يحاولون تعريف الثقافة ينتسبون إلى مجالات مختلفة كالتربية والتعليم والفلسفة، ولكل من هؤلاء اهتمامات خاصة ينظر إلى الثقافة من خلالها. ومن هذه التعريفات أن الثقافة جملة من العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها. ويعرّف آخرون الثقافة بأنها «المعرفة المتصلة بالعلوم الإنسانية التي ترقى بالإنسان وتوسع دائرة معارفه، وتميزه بالنظرة الشاملة بحيث ينعكس هذا كله على شخصيته وسلوكه مما يجعل منه إنسانًا واسع الأفق مهذبا». وهناك من يقول إن «الثقافة هي التراث الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعلمية».
من كل هذه التعريفات نستطيع أن نختصر مفهوم الثقافة، فنقول إن الثقافة هي مجموعة الأفكار والمثل والتقاليد والعادات والمهارات وطرق التفكير وأساليب الحياة وتراث الماضي بقصصه ورواياته وأبطاله ووسائل الانتقال وطبيعة المؤسسات الاجتماعية في المجتمع الواحد. ومثال ذلك ثقافة اللباس وثقافة إكرام الضيف وثقافة احترام الجار، واحترام النظام العام والمحافظة على نظافة المدينة، وكذلك ثقافة التعامل والتواصل والتعاون والتعارف بين أفراد المجتمع.
بعد بيان هذه التعريفات لمفهوم الثقافة سأنتقل إلى توضيح العلاقة بين الثقافة والحضارة من ناحية وبين الثقافة والعلم من ناحية أخرى. فبحسب ما أوردته مصادر علمية متعددة فإن العلاقة بين الثقافة والحضارة هي علاقة تلازم وترابط بين الاثنين، فلا تنفك إحداهما عن الأخرى. فعندما نقول حضارة فذلك يعني شموليتها للثقافة، ومثال ذلك أن الفلاح لا يستطيع أن يزرع الأرض إلا إذا كان ملمًّا بالأرض والآلات الزراعية المستخدمة لحرثها وإصلاحها.
وبالرغم من التباين في تعريفات المنتسبين للثقافة من حيث إن البعض يقول إن الحضارة هي الأصل والثقافة جزء منها، بينما يقصر فريق آخر الحضارة على الأشياء المادية ويحصر الثقافة في النواحي الفكرية، إلا أن الغالبية يتفقون على كون الحضارة والثقافة متشابهتين إلى حد كبير ولا فرق بينهما.
وبالنسبة للفرق بين الثقافة والعلم، فمعروف أن العلم تخصصي أي عبارة عن حقائق ثابتة لا تختلف باختلاف الأشخاص ولا تتغير بتغير المصالح. أما الثقافة فإن فيها تنوعًا وشمولاً، وتختلف من بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع آخر. فكل مجتمع له مميزات وخصائص تميزه عن المجتمعات الأخرى. والعالم هو الشخص الذي يحصر نفسه في مجال تخصصه ولا يهتم بجوانب الثقافة العامة المتعلقة بالإنسان. أما إذا كانت لديه معارف متعددة ومتنوعة إلى جانب تخصصه فإنه يوصف بالوصفين. وأما المثقف فهو الشخص الذي يتميز بمعرفة جوانب الثقافة عامة وليس متخصصًا بعلم من العلوم.
مما سبق نستطيع أن نقول إنه في حياة كل أمة من الأمم مفاهيم أساسية تحرص على ترسيخها وتطبيقها وتعميق إدراكها في نفوس أبنائها، وذلك في شتى المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. ولتحقيق ذلك فإن الأمة تتخذ وسائل مختلفة، فتؤلف الكتب وتعقد المؤتمرات وتضع مناهج التربية والتعليم وتستخدم كل وسائل الإعلام لتوضيح هذه المفاهيم الثقافية وشرح وبيان وجوه النفع فيها.
هذه المفاهيم وما يتعلق بها هي ثقافة الأمة أو حضارتها. ولا يمكن أن تبقى الأمة وهي مفقودة الثقافة، مثال ذلك الدولة التركية التي تأثرت بالغرب فحلت الثقافة الغربية محل ثقافتها الأصلية، إذ أخذت تركيا عن الغرب الميراث والطلاق والأحوال الشخصية، كما غيرت الحروف العربية باللاتينية فانفسخت عن الثقافة الإسلامية، بل وسبق أن طالبت ولا تزال تطالب بالانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي.
بقي أن أوضح كيفية المحافظة على الثقافة باعتبارها هوية وطنية مميزة وغير قابلة للانصهار مع ثقافات غربية أخرى. وهنا أتذكر جيدا بداية فترة وجودي للدراسة في دولة أوروبية حيث راودتني فكرة متسلطة بالعودة إلى الوطن بعد أيام قليلة من وصولي لمقر البعثة، لكنني كنت مؤهلاً ومهيئًا لتحمل آثار الصدمة الثقافية. كما أتذكر ما كتبته في مقال سابق بعنوان «أشكال المتغيرات التي تواجه الطلاب المبتعثين والحاجة إلى حلول بديلة» حيث يدرك الطالب لحظة وصوله أنه مصدوم ثقافيًّا نتيجة للاختلاف الشديد لثقافة بلد البعثة عن ثقافة بلد المبتعث الأصلية، إذ نجد أن الطالب في هذه البيئة الجديدة ثقافيًّا يكون أمام مفترق طرق وخيارات صعبة. فهو إما أن يرفض الثقافة الجديدة رفضًا كاملاً فيبقى وحيدًا منعزلاً، أو يقبل بها قبولاً كليًّا على حساب ثقافته، أو أن يتأقلم معها جزئيًّا دون أن يتنازل ويتخلى عن ثقافته الأصلية التي تشرب بها منذ الصغر. وفي تقديري أن التأقلم مع ثقافة غربية هو أفضل الخيارات وأنسبها للمحافظة على الثقافة العربية الأصيلة.
ولأجل المحافظة على تميز الثقافة العربية الإسلامية ينبغي أن نذكر التحديات التي واجهتها الثقافة الإسلامية. ومن أقوى هذه التحديات بشكل عام هو الغزو الثقافي الغربي بشتى مؤسساته ووسائل إعلامه. وقد اتخذ هذا الغزو شكلين: الغزو المسلح الذي نتج عنه الاستعمار لمعظم الدول الإسلامية، والغزو الفكري والثقافي. وقد ساعد الغزو المسلح الثقافة الغربية على تمهيد الطريق أمامها من أجل طمس الهوية العربية الإسلامية وذلك عن طريق المدارس ووسائل الدعاية الأخرى من كتب وأقمار فضائية وقنوات إعلامية ووسائل اتصال تقنية.
ولكي نتمكن من مجابهة هذه التحديات ونقاوم هذه الضغوط التي تمارسها الثقافة الغربية على ثقافتنا العربية الإسلامية، لا بد أن نفهم أولاً أسباب الغزو الثقافي الغربي للثقافة العربية والإسلامية تحديدًا. لقد كان الحكم في أوروبا قبل النهضة ثيوقراطيا «حكومة رجال الدين»، ولقد وقفت هذه الطبقة الدينية أمام الحريات وسائر المقومات الإنسانية، واستطاعت هذه الفئة أن تحجب النور عن العالم الغربي قرونًا طويلة. وبعد ذلك شعر الأوروبيون أنه لا خلاص لهم إلا بالقضاء على هذه الطبقة والحكم العنيف الذي تتبناه الكنيسة. وهكذا نشأت الحضارة الغربية على أنقاض الكنيسة المتطرفة وكلها ردود أفعال ضد السلطة الدينية وبالتالي ضد الأديان كلها بما فيها الدين الإسلامي الوسطي الحنيف. وبذلك كانت الحضارة الغربية الحديثة أثرًا من آثار النزاع المسلح بين رجال الدين والعلم.
ولذلك فقد اتخذت الثقافة الإسلامية موقفًا ثابتًا من تحديات الثقافة الغربية. ولكن هذا الموقف لم يكن موحدًا بل تفرع إلى اتجاهات مختلفة. فالاتجاه الأول يتخذ موقفًا سلبيًّا أمام الحضارة الغربية، وهو يدعو إلى عدم الأخذ بشيء من أسبابها. وقد اعتبر البعض هذا الاتجاه بأنه سوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل والتفكير في الكون، ثم إن هذا الموقف يستحيل عمليًّا لأن طبيعة الإنسان ترفضه. وأما الاتجاه الثاني فإنه يدعو إلى التغريب والأخذ بكل أسباب الحضارة الغربية خيرها وشرها فيما يتعلق بالعلم والصناعة والثقافة وأسلوب الحياة العقلية والروحية واللغوية. وهذا الاتجاه ظهر في تركيا والهند وهو يمثل موقف المستسلم للحضارة الغربية المقلد لها والمؤمن بكل قيمها ومبادئها، والمنتهج لنظمها الاقتصادية والسياسية والفكرية. وبعد ذلك ظهر تيار ثالث يدعو إلى التوفيق بين الحضارتين لمسايرة التطور حيث يرى أن مصلحة الحضارة الإسلامية في هذا التطوير. ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن هناك حاجة إلى استنباط أحكام شرعية توافق القضايا الجديدة. وأما الاتجاه الرابع والأخير فقد تمثل خطابه بالدعوة إلى تمسك المسلمين بالقرآن والسنة مع الإفادة من خير ما أنجزته المدنية الغربية وأخذ الصالح والنافع من علومهم وترك الفاسد والضار الذي يتعارض مع مبادئنا الإسلامية العليا.
هذا الاتجاه هو الذي يواجه الحضارة الغربية مواجهة الواثق من نفسه، ويدعو إلى إيجاد تيار قوي يواجه الثقافة الغربية بشجاعة وإيمان. وهو يحاول أن يجمع بين حسنات الشرق والغرب.