حمّاد السالمي
* قلت في العنوان: (صُحف) ولم أقل: (صَحافة)؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين المصطلحين. الأول يعني: الجرائد التي هي الورق وإدارته، والثاني يعني: المهنة ذاتها التي تمارس من خلال الصحف أو ما شابهها حتى وإن تداخلا على الألسن. الصحافة صناعة ومهنة إعلامية سابقة ومؤسِّسة لما بعدها من أعمال إعلامية إذاعية وتلفزية. ولذلك يقال لمن يعمل فيها كاتبًا ومحررًا: (صحافي)، ولا يقال: (صحفي). لأن صحفي أقرب للورقي. وفي هذا يخطيء المخطئون.
* كانت الصحافة وكانت الصحف فيما قبل الثورة الرقمية؛ تشكل أهمية كبرى في التعاطي المعرفي والمعلوماتي بين الناس. كانت الصحيفة مدرسة إعلامية وثقافية وعلمية ورياضية وفنية واجتماعية، ووسيلة ربط بين البشر. في زمن مضى؛ سئل رجل عن صنعته فقال: أستاذ مؤدب..! فقيل له: كيف ذلك وقد سمعنا أنك تصدر صحيفة..؟! قال: نعم. فإني؛ لما رأيت الناس لا يرسلون أولادهم إلى المدرسة؛ أرسلت المدرسة إلى أولادهم في بيوتهم. يقصد بالطبع الجريدة..! وعندما عرف العرب صنعة الصحافة في بلادهم؛ احتفوا بها، ومجدوها، فهذا أمير شعرائهم أحمد شوقي- (1868م- 1932م)- يقول محتفيًا بهذه الصنعة المؤثرة في الحياة العامة:
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
لسان البلاد ونبض العباد
وكهف الحقوق وحرب الجنف
فيا فتية الصحف صبراً إذا
نبا الرزق فيها بكم واختلف
فإن السعادة غير الظهو
ر.. وغير الثراء، وغير الترف
ولكنها في نواحي الضمير
إذا هو باللوم لم يُكتنف
* نعود إلى مسألة التنبؤ بزمن آت قريب أو بعيد ليس فيه صحف، وإن بقيت الصحافة بمعناها المهني الذي قد يكتفي بوسائل ووسائط غير ورقية، وهذا ما بدأ يظهر في أيامنا هذه عبر: (السوشيال ميديا). فقد أصبح واضحًا أن المعرفة تتجه إلى (الكَبْسلة). وأن المعلومات التي تربط بين الإنسان وواقعه وحياته وتفكيره؛ باتت ثقيلة ومكلفة إذا هي مُحبرة مكتوبة، وأن ضغطها ومن ثم (كَبْسلتها) رقميًا؛ هي الطريقة الأفضل لمواكبة السرعة في كيفية التلقي والتناول المعرفي للأجيال القادمة.
* كيف أعيش في بلد ليس فيه صُحف..؟ كيف أجلس لتناول قهوة الصباح بدون صحيفة في يدي..؟ هل يأتي علينا زمن بدون صُحف..؟
* غدت هذه الأسئلة وغيرها؛ تتردد على مسامعنا في المجالس العامة، خاصة بعد تراجع توزيع الصحف في العالم أجمع، وليس في منطقتنا وحدها. بالأمس؛ ودّعت صحيفة (المستقبل) اللبنانية إصدارها الورقي، بعد عشرين سنة هو عمرها القصير جدًا نسبة إلى صحف عريقة في المنطقة ما زالت تصدر وتواجه خطر السقوط. صحيفة الأهرام المصرية على سبيل المثال؛ عمرها (144 عامًا)، كانت توزع إلى ما قبل سنوات قليلة مليون نسخة في اليوم. وصل توزيعها اليوم- حسب مصادر مصرية- إلى (30 ألف نسخة)..! هناك دول في أميركا وأوروبا وغيرها؛ عمدت إلى دعم مؤسساتها الصحافية حتى لا تسقط. الحكومة في جمهورية مصر العربية؛ سارعت إلى مثل هذا الدعم، الذي يشي باستشعار كثير من الحكومات خطر سقوط مؤسسات صحافية كبيرة كانت وما زالت تنهض بدور كبير داعم لسياسة وسيادة بلدانها، وهو ما تفعله مؤسسات أخرى في عديد البلدان العربية، ومنها المملكة العربية السعودية.
* إن أول جريدة مكتوبة ظهرت في العالم- كما تذكر المصادر التاريخية- كانت في الصين عام (911 قبل الميلاد) كانت محفورة على الخشب. وهي الصحيفة الرسمية، وكان اسمها (كينو). ويقال: إنها لم تزل تصدر حتى اليوم، وتنشر ثلاث نشرات يومياً، صباحاً باللون الأصفر، وظهراً باللون الأبيض، ومساءً باللون الأحمر، وهي تملك طائرات للتوزيع. ثم تبع ذلك ما يقال إنها أول جريدة في أوروبا، وتسمى: الأعمال اليومية (Acta - Durna )، وذلك عام (58) قبل الميلاد، في عهد الإمبراطور يوليوس قيصر. وظهرت أول جريدة مكتوبة بعد ذلك في أوروبا في ألمانيا عام (1502 م)، وكانت تدعى (ديرشن). أما أول صحيفة في العالم العربي صدرت باللغة العربية فهي (الوقائع المصرية)، وظهرت عام (1828 م)، في عهد محمد علي باشا، أما أول صحيفة سعودية صدرت فهي (القِبلة)، وظهرت عام (1915 م)، الموافق (1334هـ). وتبعتها في الصدور بعد ذلك؛ عشرات الصحف والمجلات التي تحول كثير منها إلى مؤسسات صحافية كبيرة، لها صحفها ومجلاتها الورقية، ولها منتجاتها الرقمية التي توازي ما يصدر عنها من صحف ورقية وكتب وخلافها، وهي اليوم على المحك ماليًا، بعد أن تأثر سوق الإعلان والتوزيع معًا، وكل من ينتسب لهذه المؤسسات الصحافية الكبيرة؛ التي هي ذراع الدولة ومرآة المجتمع؛ من عاملين ومتلقين؛ يتطلعون إلى همة وزير الإعلام (تركي الشبانة)، لدعم هذه المؤسسات، بما يسهم في الخروج من أزمتها، وتطوير آلياتها، وضمان بقائها؛ حتى مع بقاء وتنامي الصورة المتخيّلة لما بعدها: (زمن بدون صُحف). قد يختفي الورق ذات يوم، ولكن الصحافة كحرفة وصناعة ومهنة باقية ولن تموت.