د. عبدالحق عزوزي
كان مفهوم الحوار بين الحضارات والثقافات ولا يزال من المفاهيم والموضوعات الأكثر تداولاً في العقدين الأخيرين بسبب غيوم الظلام والأزمات التي طبعت عصرنا الملبد بالصراعات الاجتماعية والدينية والثقافية، ولما أخذه من تعاريف تجاوزت كثيرًا دلالته المعجمية المعروفة، كما زاد من حدة الاعتداد به ضرورة الرجوع إليه كأسلوب للتعارف والتقارب وإصلاح ما شاب الأفكار والنظريات من إعوجاج في الحكم والتقييم.
فالمجتمعات في ظل تنامي العولمة تتقاسمها مخاوف متشابهة ومتباينة، وتسعى جاهدة لإعمال كل طاقاتها القانونية والمؤسساتية لمعالجتها أو لاستباقها. فمن هجرة منظمة وسرية من دول الجنوب إلى دول الشمال، وكل التداعيات الأمنية التي تطرحها في دول الاستقبال والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دعت إلى ذلك في دول الجنوب، إلى إرهاب عابر للقارات والحدود، مرورًا بالصراعات والحروب التي تودي بحياة الآلاف من البشر في عديد من مناطق العالم، كلها عوامل غذت جذور اللا تفاهم والتنافر بين الشعوب والأمم وأضحت تنمي أغصان الكراهية والشنآن وتولد نظريات التشاؤم والمخاوف المتتالية.
وأنا لا ألقي اللوم على الغرب وحده لجهله الكبير بالآخر المسلم، فالعكس في بعض الأحيان صحيح، ولكن العالم الإسلامي محاط اليوم بشتى أنواع الإكراهات في علاقته بالغرب؛ والإسلام الذي هو أصل عقيدته وقوام هويته متهم في الأذهان الغربية بكونه دين الغلو والتطرف والإقصاء بل وحتى الثقافة العربية- الإسلامية متهمة على كونها تميل إلى التقليد المحبط وتغذي خصوصياتها الحضارة العربية والإسلامية، وهي المرجع الرئيسي حسب زعمهم لحركات الإرهاب في العالم. وعلى الإِنسان المنصف الذي يريد أن يحكم على الواقع أن يتجرد من هاته الأحكام المغلوطة ويرجع إلى الأصل المستبين للحضارة العربية والإسلامية والدين الإسلامي. والمشكلة هنا أن تلك الرواسب الخطيرة في الذهنية الغربية، تستند أيضًا إلى فعل بعض المسلمين أنفسهم الذين ليس لهم أية دراية بالرسالة الحقيقية للإسلام، فلا واقعهم ولا تصرفاتهم تومئ إلى شيء من الإسلام.
ونحن نتحدث عن هذا الموضوع، نشير إلى خطورة بعض النظريات التي ما زالت بعض الأوساط الفكرية في الدول الغربية تتبناها وعلى رأسها نظرية هانتنغتون حول صراع الحضارات. ونعلم أن هذا الرجل إيديولوجي أراد أن يعطي للحضارات والهويات طبائع ليست فيها؛ فهي ليست كيانات مغلقة، مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيرتها التي تحرك المسيرة الإِنسانية منذ قرون التي سمحت كما يكتب إدوارد سعيد «ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل جعلت التاريخ تاريخًا للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري»، وهذا كلام صحيح؛ وكما يكتب الأستاذ محمد الكتاني: «لقد التقى المسلمون بعد فتوحاتهم على امتداد القرن الأول الهجري مع شعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، فكانت المرحلة الأولى لهذا اللقاء مرحلة تصادم وصراع بين الفريقين. وبرغم تفوق هذه الشعوب حضاريًا يومئذ، فإنها أذعنت لسلطان الإسلام السياسي، فغدت تابعة لدار الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، لكن في مقابل هذه السيادة العربية السياسية الدينية ظلت حضارات البلاد المفتوحة وثقافاتها هي صاحبة السيادة. وهو ما جعل البعض يقول بحق: «إذا كان المسلمون قد فتحوا بلاد الأعاجم دينيًا وسياسيًا، فإن هؤلاء الأعاجم قد فتحوا عقول العرب ثقافيًا وحضاريًا»، وهو ما يعني أن الحوار الثقافي والحضاري بين العرب والفرس والرومان وغيرهم كان ضرورة حتمية، بالرغم من الإقرار بأنه لم يكن سهلاً، ولا تحقق بوفاق أو تسامح في بداية الأمر.
إن الصدام الحضاري لن يكون كما يكتب غراهام فولر «حول المسيح أوكونفوشيوس أو الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بل على سوء توزيع الثورة والقوة والنفوذ»، فهناك 20 في المائة من ساكنة العالم هي التي تنعم بظروف عيش الدول المتقدمة، والهوة تزداد اتساعًا بين الأغنياء والفقراء، وحسب تقارير المؤسسات الدولية، من ضمن ستة ملايين سكان العالم، يعيش ثلاثة ملايين بأقل من دولارين في اليوم و1.2 مليار بأقل من دولار واحد في اليوم أي في عتبة الفقر المطلق، وهناك 1.5 مليار من الساكنة لا تتوافر على الماء الصالح للشرب وسوء توزيع الغنى في العالم الذي يزيد فجوته مع هيمنة العولمة، هي التي تزيد من درجة السخط والغضب وهي التي تؤجج العنف والصراعات الإثنية والعرقية. وهي التي تحدث لا توازن في مسيرة الحضارة الإِنسانية.