أ.د.عثمان بن صالح العامر
انتقل إلى رحمة الله مطلع هذا الأسبوع المهندس يحيى عبدالكريم الزيد (أبو عبدالكريم) الذي عرف عنه التواضع الجم والتواصل الدائم ودماثة الخلق وحسن السجايا والقرب من الجميع.
لقد زرت جمهورية الصين الشعبية منتصف عام 2010م، حين كان (رحمه الله) سفيراً للمملكة العربية السعودية لديها، والتقيت به أول النهار في المدرسة السعودية ببكين؛ حيث كان يرعى الاحتفال باليوم الوطني السعودي الذي تقيمه إدارة المدرسة بهذه المناسبة.. فلمست منه وسمعت عنه الكثير. فأياديه الخيرة، وبصماته الطيبة، ومسحاته الرحيمة، امتدت بلا قتر ولا منّ؛ لاحظت في هذا اليوم المدرسي قرب الجميع منه إدارةً وأساتذةً وطلاباً وأولياءَ أمور؛ وقربه هو منهم بشكل كبير، عرفت في هذه المناسبة عمق الحس الوطني لديه، وتميز الأسلوب التربوي في شخصه -رحمه الله-، عبارات الثناء والشكر سبقت وصوله للمكان، وأخبار أعماله الخيرة وأياديه البيضاء كانت على كل لسان، وجزماً هذا وذاك وغيرهما كثير مما قدم من أعمال مباركة ولمسات طيبة ستكون شاهدة له عند الله -عزّ وجلّ-، وسينال أجرها من الربّ الكريم الرحمن الرحيم، فهو من الرجال الذين يعملون بصمت، وينفقون بسر، رغبة منهم فيما عند الله سبحانه.
في صباح اليوم الثاني زرت المحلق الثقافي السعودي في الصين سعادة الدكتور صالح بن حمد الصقري، والتقيت بعدد من المبتعثين طلاب الدراسات العليا، فكانت سيرته العطرة ووقفاته الخيرة حديث الطالب السعودي المغترب من أجل العلم، فضلاً عن الملحق وزملاء المهنة من الأكاديميين العاملين في الملحقية والإداريين التابعين لها.
شرفني -رحمه الله وأجزل له المثوبة والأجر- بدعوة كريمة على العشاء، فكان الملحق التجاري والعسكري والثقافي و... حوله ومعه أسرة واحدة، وجسدية متكاملة، تنم عن المحبة الشخصية العميقة، والصداقة الحقيقية الصحيحة، والشعور بالمواطنة الحقة، وتبرهن في ذات الوقت على التمثيل الفعلي للوطن الغالي في دولة لها ثقلها العالمي (جمهورية الصين الشعبية).
كان غالب الحديث عن هذا البلد (الصين الشعبية) الماضي والحاضر، الواقع والحال، وتوطد العلاقات السعودية (السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية و...) معه في السنوات الأخيرة بشكل لم يسبق له مثيل.
علق أحدهم على هذا الحديث الشيق الماتع المفيد الذي أثلج الصدر وسر الخاطر بقوله: «كل هذا من بركات الله -عزّ وجلّ- ثم توجيهات القيادة الحكيمة وجهود المهندس أبو عبدالكريم الذي عرف العقلية الصينية عن قرب واستطاع أن يهندس التعامل معها بشكل صحيح، فكان الخير للوطن والمواطن ولله الحمد والمنة».
كان (رحمه الله) كريماً في مائدته كعادته التي عُرفت عنه، والشيء من معدنه لا يستغرب، وكانت سهرة رائعة لم تنمحي من الذاكرة رغم مرور السنوات وتعاقب الأحداث.
حين هممت بالاستئذان للخروج، قام معي بأدبه الجم مودعاً وشاكراً على هذه الزيارة الخاطفة، وقبل الوصول للباب الخارجي كان هناك صندوق زجاجي كبير (بترينة جميلة) سألني ماذا ترى في داخلها: إنها بطحاء حائل الحمراء التي لا تخطئها العين.
ضحك والسعادة تملأ جوانحه والتفت إليّ قائلاً: كل من زارني من عرب وصينيين وسفراء ومسؤولين أخذت له معي صورة في هذا المكان وبطحاء حائل بيننا.
سألته ما قصة هذه البطحاء؟ تنهد.. وهو يعيد شريط الذكريات سريعاً وقال لي، وقد وضع يده بيدي، ونظره بنظري، وكأنه يهم ببدء حديث قلبي خاص: «شف الله يسلمك، هذا معاذ جانن يودعن في بداية إجازة المدرسة السنوية، يبي يروح لمملكة، قال: تامر على شيء من حائل؟، قلت: هني والله من هو على بطحئها.
سافر أبو صالح وتفاجأت بعودته جايب لي معه أكياس بطحاء من شعيب الرصف اللي عليها الكلام، البطحاء التي بصدق أعجوبة في جمالها ونظافتها ولونها الذي يختلف عن كل الألوان التي رأيت. وضعتها في هذا الصندوق الزجاجي الجميل وهي فرصة للتعريف بالمكان الذي أحب الركون إليه متى رغبت الاسترخاء والاستجمام والهروب من ضغوط الحياة».
ورغم هذا الحب العميق لتربة حائل مسقط رأسه وأرض أهله وأجداده فإنه (رحمه الله) أوصى بأن يصلى عليه في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويدفن في المدينة المنورة فكان له ذلك.. حيث صلي عليه بعد صلاة عصر يوم الاثنين الماضي في الحرم النبوي الشريف ودفن في البقيع.
أبناء وأحباب المهندس «أبو عبدالكريم»، حٌق لي في هذا المقام أن أتمثل قول الشافعي -رحمه الله-:
إني معزيكَ لا أنيِّ على ثقة ٍ
مِنَ الخُلودِ، وَلكنْ سُنَّة ُ الدِّينِ
فما المُعَزِّي بباقٍ بعدَ صاحِبِهِ
ولا المُعَزَّى وإنْ عاشَا إلى حَينِ
رحمك الله أيها الوفي الواصل، المحب الصادق، وأسكنك الربّ فسيح جناته، ورزق زوجك وولدك وأهلك وذويك وأصدقاءك ومحبيك الصبر والسلوان، وجعل قبرك روضة من رياضه وأعاننا جميعاً على ما أعانك عليه وما بعده، وإلى لقاء والسلام.