د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ما الذي يُغرينا في «الجانب الآخَر» من النهر الذي نظنه «أكثر اخضرارًا» كما منطوق المثل الأجنبي الذائع:
«The grass is always greener on the other side»
ولماذا يروق لنا النائي ولو لم تُعوزنا خضرةٌ أو نهرٌ أو شاطئٌ؛ هل لنضيفَ نعجةً إلى نعاجنا؟ أم لأن نطاق البصر مختلف عن منطق البصيرة ؟ أو لأننا لا ندري فلا نكفي ولا نكتفي؟
** يفتح هذا باب المقارنات الذي لم تبرأ منه ثقافة ولا تخلى عنه علم وخصصت له مؤلفات، وتمثّل في كتب التراث بعناوين «الوساطة» و»الموازنة» و»الإنصاف» ونحوها، ثم تعددت أسماؤه وسماته، وصارت المقارنات ذات دلالاتٍ إحصائية، كما امتد إلى الأوساط العامة: «الشعبية» منها وعاليةِ المستوى التعليمي والوجاهي؛ حيث لا يكاد المرءُ ينطقُ بمنجزٍ حتى يلاقيَه آخرُ بما أنجزه، وإذا شكا علةً تواصل معه بعلل، وإذا اعتزَّ بذي قربى عدَّد قرابات، وبذي منصبٍ ذكر مناصب، وبسفرٍ أشار إلى سفرات، وبلقاءٍ استعاد لقاءات، وفي الضفة المواجهة لن يلبث من ينتقد مثلبةً له أن يردَّها عليه بأعظم منها؛ فليست المناقبُ وحدها ما يقارَنُ بل المثالب كذلك.
** تبقى مقارنات الأدنين واردةً وإن أعيت طرفيها، وتظل مقارنات غير المتماثلين منتشرة مهما ازداد الإنكار عليها، كما تهون المقارنات المادية العابرة والمتغيِّرة حين تُقابل بالمقارنات المعنوية ذات الإطار الإنساني الشمولي حيث إلباسُ مكانٍ أو زمانٍ أو إنسان أرديةً مقارِنةً لا يستقيم فيها وصل كالخلط في مفاهيم «الحرية» و»الديموقراطية» بين من يأخذها بمواصفاتٍ جاهزةٍ وبين من يعي الفوارق بين البيئات دون أن تحكمه الشعارات.
** وحين نتجاوز المفاهيم المطلقة إلى المساحات المقيدة فإن من يقارن التعليم والإعلام والثقافة مثلًا في بلد بما هو سائد في بلدٍ مختلفٍ على سبيل تقزيم تجربة وتضخيم أخرى فإنه يُزجي وقتًا وجهدًا لا قيمة لهما إلا في إطار بحث المشتركات والسعي لاستكمال ما يأذن به ظرفٌ وموقفٌ وسياقٌ إنساني.
** لا يعني هذا الوقوف بتجربةٍ ما عند حواجز الآن والأنا؛ فلا شيء يقمع التطورَ مثلُ الخوف من التغيير، ولكنه الإعدادُ لبناءٍ هرميٍ تراكميٍ يقودُ المركب في بحر هادئٍ لا يضيرُه ألا يبحرَ في الأمواج أو تدفعَه الأفواج، والمشاهداتُ تؤكّد أن المرور السريع لا يعني الوصول الآمن؛ فالأهم ترتيب الخطوات لا تبرير الأخطاء، والأمر هنا منطبق على من تقدّمَ ومن تأخّر، وما يستحقه المجتمع من مكتسباتٍ أو يحققه من إنجازات لا يصح التراجع عنه إيماءً إلى مقارنة ما كان بما صار.
** الأمامُ لا يقارن بالوراء، والتقدّم لا يرضى التخلّف، والمرتكز في تحديد المفاهيم وتعريفها ينبع من النسيج الخاص لكل بيئة مثلما يصبُّ فيها.
** الضِّفافُ لا تتمايز.