هدى مستور
يستيقظ باكرًا، ليستأنف عمله في منجرته الخاصة، فلا يزال أمامه الكثير حتى ينتهي من إكمال نحت الصنم الذي بدأه، بمجرد ما أن انتهى من منحوتته السابقة، حتى اللحظة لا يمكنه إحصاء عدد الأصنام ذات الملامح الغاضبة التي صنعها بيديه، لكنه يتذكر سريعًا حجم الجهد الشديد، والعكوف المتواصل، والعمل الدؤوب الذي قام به طوال عمره في نحت التفاصيل الصغيرة التي تميز أصنامه البشعة. ولكن هل يعرض أصنامه تلك؟ نعم يعرضها وبحماسة ملحوظة على زواره، ومن يشاركه الاهتمام نفسه، وكذلك على المارة، حتى وإن لم يكونوا من هواة الاستمتاع بالتفرج على قائمة الأصنام المنصوبة!.
هل عادت عليه بأرباح وعوائد؟ لا، يكفيه أنه حين ينتهي من إحداها يشعر بأن طاقة غضبية شديدة خرجت منه، وأودعها تلك المنحوتات!
ما التسميات التي أطلقها على أصنامه؟ جاءتك الإجابة على الفور: العدو!.
ولأن وسائل التواصل الاجتماعي تعكس حياة شرائح عريضة ومتنوعة من المجتمعات البشرية؛ فهي تتضمن رواد كثر، اختاروا بأن تكون رسالتهم في الحياة هي صناعة عدو. وكلما سقط عدو صنعوا لهم عدوًا جديدًا.
أثناء القيام بأنشطة الحياة اليومية، هناك عشرات من الانفعالات المتنامية تحدث داخل النفس البشرية، منها المعتدل كالاستياء، والإحباط، الملل والتوتر والقلق المتوسط ومنها المتصاعد في حدته كالكراهية والعجز والرغبة بالانتقام والنفور والحسد والحنق...
إن قوة تدافع الضغط الغضبي، ومجموع الانفعالات السلبية، تتناثر كشظايا متفرقة في داخل جهاز العقل اللا واعي، وفي الوقت نفسه تتوالد طاقات سلبية كامنة، داخل النفس تبقى محبوسة، تنتظر ثقبًا لتقذف منه حممها، أو أنها بتفاعلها الناري تنذر بانفجارات مدوية مستمرة.
الذي يزيد من مدة بقاء الغضب هو تبرير تبنيه، وشرعنة التفاعل معه؛ فيوهم الغاضب نفسه، أنه يغضب في وجه «عدو ما»؛ ولأجل غايات نبيلة كغضبته لله، أو للدفاع عن حياض الوطن أو لحماية قيمة نفيسة.
وللغضب مثيراته؛ في الظاهر: كثرة الأعداء، والحمقى، والمستفزين: فلان استثارني، حادث سيارة من جاهل، مدير سادي، زوج مستهتر، مراهق متهور، جار مزعج، عامل غبي، متسول مخادع، نباح كلب، طنين ذباب...
ولكن في دواخلنا، فإن الشعور بالإحباط أحد أكثر أسباب الغضب شيوعًا؛ فالعجز دون تحقيق الاكتفاء، من خلال الإخفاق في تجسيد الأهداف والتعثر عند سلالم الأمنيات.
ولا يزال الخوف الكامن في أعماقنا؛ مما يتغذى عليه الغضب، ويزيد تفاقمه به، كالخوف من خسارة، أو موت، أو فقد، أو سجن، وإهانة.
ولا ننسى هيمنة الأنا المزهوة، واعتبار كل مخالفة استفزازًا، وتنقصًا من القيمة الشخصية، إِذ الغضب أحد أخطر لغات الأنا الناقمة.
الغاضب جاحض العينين، منتفخ الأوداج، عابس، متجهم، تلمع دماء الغضب من عينيه، ثائر النفس، وله منحوتاته ذات الطابع الخاص به، وبها يتميز ويُعرف؛ فهو كثير الدعاء على الأعداء، متعطش لأنباء الحروب، يروج لحكايات الصراع، ويتناقل بالتحليل مواقف النكايات، وأخبار الوشايات، وإشاعات الجنايات، ويثق بأكذوبة المؤامرات. ومن ثم فلا ينجذب إلى صناعته ويحوم حوله، إلا المشحونون والسلبيون من أمثاله. في حين ينفر منه الأصحاء من الناس ويتجنبون مخالطته، لأن قلوبهم لا تهفو إلا لأحاديث السلام والرفق، وعقولهم لا ترتاح إلا لالتقاط الحكمة، وهذه ليست من جملة بضاعته.
إن رحلة العودة للنفس، والتفتيش في مكامن ومثيرات الغضب فيها، هي من أعمق الرحلات وأكثرها إثارة! ولا بأس من أن يمسك بورقة وقلم ويسأل نفسه ما الذي يخرجني عن طوري؟ ما الذي يقف خلف غضبي ويدفعني باتجاهه؟ يحصي ذلك يعدد ذلك كتابة، ولم أجد نفسي ثائرًا في حال وجود هذا المثير؟ يعلل ذلك، طرح هذه الأسئلة العميقة على النفس البشرية والإجابة عليها بصدق ووضوح يساعد إلى حد بعيد في اكتشاف مجاهيل غائرة بداخل النفس البشرية.
حينئذ بوسعه أن يتفهم غضبه المكبوت بمجرد أن يعترف لنفسه بالسبب الأصلي الذي يقف خلف غضبه، أهو الشعور بالعجز، الحرمان، الفوات والخسارة، الإهانة، أو الخوف، أو طلبًا للفخر والتميز...الخ
ومن ثم تأتي الخطوة التالية: بأن يأذن لهذه المحركات السلبية المتخفية بالخروج. يفعل ذلك وفقًا، لتقنيات مجربة، أحدها: كأن ينظر لذلك السبب الرئيس الذي يقف وراء شعور الغضب وكأنه جسم له حيز وقوام، ينظر إليه وكأنه شاخص أمامه أو حتى كامن بداخله، وبعد قيامه بعمليات تنفس هادئة وعميقة يمكنه أن يقوم بتوديع هذه المشاعر، يساعده في ذلك زفراته العميقة، الحارة والمتصاعدة.
الحديث مع الشعور القائم خلف الغضب حديث العاقل للعاقل: مفيد جدًا شرط ذلك الوعي بما تفعل.
المعرفة العقلية بضرر الغضب، عملية نقد عقلية، تفيد ممن هم واقعون تحت سيطرة تقييم العقل، إِذ لا بد من اعتراف الغاضب بأنه خارج عن طبيعته، ومن ثم فقراراته وأحكامه تحتاج للنظر والدراسة.
الغضب هو إعلان صريح للعجز الأخلاقي، ومن لا يقوى على إدارة نفسه فهو أكثر عجزًا عن إدارة غيره.
وقد صح استنتاج الصحابي باعتبار الغضب أس الشرور ومنبعها، حين تكررت وصية النبي صلوات ربي وسلامه عليه لمن استوصاه؛ ففي رواية: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِى، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ. قال الرجل ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
على أن هناك جانبًا صحيًا للغضب؛ إِذ هو عاطفة مشحونة، طاقة مكبوتة، قد يدفع بصاحبها- المتردد أو الخجول أو الخائف- للتحرك باتجاه هدفه، إما لاسترداد حقًا له، أو للمطالبة بحق مغتصب. للغاضب أن يوظف الفائض من طاقته الغضبية في مسارات صحية كالإبداع والابتكار، فخلف طاقة الغضب قوة طاقية هائلة، تدفعه دفعًا للإنتاج، وللتحرر من الظلم والقهر في الوقت نفسه.
وهناك خيار آخر كمعالجة تفاقم الغضب من خلال حضور برامج توعوية أو الانضمام لمجموعات الدعم فيما يسمى «إدارة الغضب» أو حتى ممارسة الأنشطة الرياضية لبناء العضلات أو رفع الأثقال.
ولا شك أن الوعي بممارسات معالجة الغضب يهيئ لاختبار الصعود في مدارج التربية الروحية.
والحل الجذري لهذا كله يكمن في أن تتقبل نفسك وأحوالك كلها، باعتبار أن النقص الكامن فيك هو أصل في الطبيعة الإِنسانية، وفصل من فصول النمو والتطور في التجربة البشرية، إن آمنت بهذا فأنت في طريقك للترقي.