د. خيرية السقاف
ليست الريح وحدها تقض بغوغائها مضجع الشجر، وخشاش الأرض، والمنثور، والرقيق، والخفيف، والمتوكئ، وكل الذي يسمع..
الإنسان أيضاً يقض هدوء الأماكن، والأسماع، والخَفوق في الصدور الآمنة..
على أن غوغاء الريح طُعُمٌ مُغرٍ للشعراء، والرسامين، والموسيقيين، بل الذين على الحافة بين دمعة، وآهة لتُسكَبَ علبُ الألوان، ولتُطْلقَ خيولُ الأوتار، وليُفسحَ لجنون عبقر، ولتهطل الأنهار، وتُزْفرُ الكوامنُ..
غوغاء إن أحدثتها الريح في بعض أوجهها مزعجة، فإنها في كل أوجهها عن الإنسان أشد إزعاجا!!..
في حين صفير الريح يهيِّج في الكمون ساكناً، له انسياب عصا الكمان على الأوتار بالشجن، مثير للإبداع، محرّض للخلاص، مطهّرٌ من البقايا، يزيد المؤونةَ، لا يُنقِصُ الحسَّ..
فصراخ الإنسان مطارق تقرع الأعصاب، تبعث القلق، تشد طاقة الحنق، تبدد راحة السمع، تخلط الأصوات، تشتت الذهن، تحرق الوقت..
للريح مواسم غوغائها، لكن لا وقت لغوغاء الإنسان، في البيت، في الشارع، في متاجر البيع والشراء، في ردهات المصحات، في ممرات صالات المطارات، في مكاتب العمل، عند النقاش، حين الجدل، وقت الحوار، حتى بين اثنين منهما..
الإنسان مزعج مبدد، يقضي ثلثي عمره في الكلام بصوت مرتفع، لذا تتجافى عنه وداعة الهدوء، وقدرة الإنصات لدبيب نملة، وحركة ريشة، وهمسة نسمة، ووقع قطرة، وتسلّل باذخ الحنو لبحة أنين خلف جدار متهالك آيل للانقضاض في شتاء زمهريري، أو صيف قائظ!!..
الإنسان يهدر عمره في عاصفة كلام يتطاير، لكنه يزعج ما يملأ هذا الفضاء من الكائنات الأخرى، حتى نفسه!!..