د.فوزية أبو خالد
ما زلت أتذكرها بقامتها الممشوقة ووجهها الزعفراني وشعرها الذهبي وعسل ابتسامتها واشتعالات حماسها عندما أقامت معرضها للفن التشكيلي بمدرستي دار التربية الحديثة بمدينة جدة مع الفنانة القرنفلية صفية بن زقر أمد الله في عمرها وفي زهو ريشتها.
لم أكن ولا أي من بنات المدرسة وربما بنات جدة على الإطلاق قد سمعنا بكلمة معرض للفن التشكيلي من قبل.
ولكم أن تتخيلوا دهشة البنات ونحن نرى جدران قاعات بعض فصولنا تخلع اللون الجيري المصفر الشاحب وتستبدله بألوان طيفية صاخبة لعدد من لوحات الفنانتين التشكيليتين. ولكم أكثر أن تتخيلوا التغير الذي أدخله إقامة معرض للفن التشكيلي بالمدرسة لأول مرة ولفنانتين فتيتين من السعودية على موقف الطالبات من الرسم. فبعد أن كانت حصة الرسم حصة بائسة لا تأخذ مأخذًا جديًا وتكون مجالاً للتحرر من أسر المقاعد وإغاظة المعلمات وعدم الانضباط، فقد اشتعل في نفوس الطالبات فجأة حب حصة الفنون. وبعد أن كان جل الطموح أن تصبح الطالبة طبيبة أو معلمة سرت في الكثير منا الرغبة في التحول لفنانات تشكيليات على طراز منيرة الموصلي وصفية بن زقر وبرزت حينها محاولات مدرسية واعدة لفايزة عبدالجبار وفوزية عبداللطيف وأميمة زاهد وعواطف مراد وأنا وأخريات. ولا أنسى استضافة «أبله أحلام عزب» للفنانة منيرة الموصلي بالإذاعة المدرسية والأثر الذي تركه كلام الفنانة الشابة الصغيرة وقتها منيرة الموصلي على الطالبات في حديث لأول مرة نسمع بمثله وهو حديثها عن مدارس الفن التشكيلي الحديث.
وإذا كان الحظ لم يسعفني بعد ذلك المعرض بلقاء الفنانة التشكيلية المميزة صفية بن زقر إلا في أعمالها الفنية ببصمتها التراثية الأصيلة، فقد أكرمني الرحمن بصحبة ثرية عميقة عن قرب مع الفنانة منيرة الموصلي.
وقد امتدت تلك الصداقة الشفيفة الصادقة على مدى عقدين من الزمان وأكثر في أوج نضج التجربة التشكيلية للفنانة منيرة الموصلي وإن تباعدت بنا السبل فيما بعد إلا أن موقع منيرة الموصلي يبقى في الضمير والقلب في نفسي وفي هواء الوطن وعلى هامات نخيله وفي روح كل محب لقيم الجمال والحق بحق.
ومع أن لانهر كولمبيا ولاولامت على ضفاف مدينة بورتلاند بولاية أوريجن في الشمال الغربي الأمريكي حيث توطدت صداقتنا يكفي للحديث عن عمق منيرة الموصلي واحتداماتها ومدها وجزرها وقلقها واستقرارها وتموجها وانسيابيتها إِنسانيًا وإنتاجًا فنيًا ومواقف وطنية وسياسية نزيهة، فإنني مضطرة لاختصار مخل في الكتابة عن براريها وبساتينها عن سواد ألوانها وبياض ريشتها على شكل قطرات خاطفة لاتوفيها حقها.
قطرة أولى:
كانت منيرة صاحبة أوليات وهو معنى غير معنى أولويات أي صاحبة مشارف وبدايات للعديد من الخطوات والأعمال والإبداعات والمشاريع والصداقات والخصومات والمشاحنات والحنان الجارف.
فبعد معرضها التشكيلي الأول المشترك بجدة وهو على حد علمي أول معرض فني مشترك أقامت معرضًا مستقلاً وبعد تظاهرة المعرض الأول والأول المشترك والمستقل، قامت بعمل ورشة رسم هي الأولى من نوعها آنذاك لأبناء جدة وبناتها برسوم رمزية للتعريف نظريًا ورسمًا بالفن التشكيلي الحديث. وقد كنتُ محظوظة بحضور الورشة في ذلك المرسم على طريق المدينة الطالع بجدة دون أن أكون محظوظة بما يكفي لاقترب من ضوئها وقد كانت منيرة الموصلي نجمة تلك الورشة وساحرتها الآسرة بريشتها الفضية وألوانها الزاهية. فحضرتُ تلك الورشة فتاة حيية مبهورة الأنفاس بتلك النجمة التي كانت للتو قد تخرجت من كلية الفنون الجميلة بمصر وعادت إلى وطنها لتخضب تراب أرضها بخصب الألوان وإيقاعها الصداح.
قطرة ثانية:
على مرافيء الغربة بأمريكا الشمالية التقيت منيرة الموصلي بمدينة بورتلاند للمرة الثانية وفي الوقت نفسه للمرة الأولى، إلا أننا هذه المرة عشنا معًا في السراء والضراء (وإن في حيين مختلفين وبيننا نهر، بيتها في قلب المدينة قريبًا من جامعة بورتلاند الحكومية وبيتي في الجنوب الشرقي). وكنا نتصابر على الحلوة والمرة مع كرمة من صداقات طلابية تمتد على امتداد الوطن العربي وبمد التنوع الأمريكي طلابًا وأساتذة وجيرانًا وزملاء، من صداقاتنا المشتركة ليز وجيين وسو وفيكي وشيرلي وسارة تنكر وشيرين عماشة وفاي وإيفلين زخاري وربيكا وجميلة ولينا العظمة وأحلام القصيبي وليلى ضليمي وبدرية القبلان والأديبة الكويتية فاطمة الناهض وموزة العبداللطيف وشلة أخرى من أخواننا الطلاب السعوديين والعرب والأمريكان. فكان أن تعلمنا تحت مظلة منظمة الطلبة العرب عدالة القضية الفلسطينية ومناصرة فلسطين وعشق كل ذرة من تراب الوطن. هتفنا في المظاهرات وكتبنا بالإنجليزي والعربي بيانات ومقالات الدفاع عن حقوق الإِنسان وحقوق الأقليات والحفاظ على البيئة في أمريكا وفي سائر الأوطان. أما الفنانة التشكيلية منيرة الموصلي نوارة القيم الجمالية فقد طورت مزيدًا من أدواتها الإبداعية في الفن التشكيلي، فكانت ترسم خريطة فلسطين بكل ما خلق الله من ألوان وأشكال مرة على شكل قلب ومرة على شكل أجنحة ومرة على شكل كلمة حرية معمدة بالتضحيات.
قطرة ثالثة:
كانت صديقتي التشكيلية ساعدي اليمين وساعدي اليسار في عنايتي بأخي طفل السنوات الست من بداية دراستي بأمريكا (في تأكيله وتشريبه وعلاجه واللعب معه وتعليمه ركوب الدراجة بعجلتين والرسم بالطباشير على الرصيف) إلى أن حصلت على الدرجة العلمية. بما قادني لاكتشف كنز طفولة ملغم بالمفاجآت المدهشة لطفلة مرحة حرة مجلجلة الضحكات اسمها منيرة الموصلي. يكمل الأسبوع المقبل..