د. حسن بن فهد الهويمل
لا أحد يتردد في قبول (الحُريَّةِ، والعدلِ، والمساواةِ) ذلك الثالوث الأخاذ، وهو عند المهرجين طُعْم مجاني لصيادين مهرة، وطرائد مجهدة.
(الحرية) مطلب، وضرورة يدعيها كل (متأنسن)، أو (لاهوتي). زعيم، أو مفكر.
وهي لافتة تعلو كل شاهق، وترشد كل ساري، وتستدرج كل متردد.
حرية السلوك، والاعتقاد، والتفكير، والتعبير، تبقى في الأزمنة الرديئة كلمات سرابية، إذا جاءها المخدوع لم يجدها، ووجد الحقيقة المُرَّة.
كل حضارة تتخذ هذا الثالوث عتبة دخول لعوالمها. يلتحف بها الأخيار، والأشرار، ويدعيها العادلون، والظلمة.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاش الإسلام فهماً، وممارسة في ظلال نصوصه، لا في متونها، واستنجد بمقاصده لا بأحكامه، روي عنه:- (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا).
لقد انشقت سيرته عن ممارسات، يظن النصوصيون أنها خروج على المقتضى.
(الحرية) مفردة في مصطلحات سائر الحضارات، مطلقة، أو مقيدة.
والإسلام في سياقها يطرح رؤيته للحرية المقيدة بالضوابط الأخلاقية، والمعرفية. الحرية التي يحكمها (النص، والعقل). وهي بهذا القيد ليست ناقصة، ولكنها منضبطة.
ولما كانت الحياة المادية نظاماً، أصبحت الحرية هي الأخرى نظاماً. والنظام ضد الفوضى، إنه مجموعة قواعدٍ، وضوابطَ، وشروطٍ، وقيمٍ: حسية، ومعنوية. كما في مصطلح (المونادة) لـ(لا يْبِنْتِز)
الكون كله بمجراته، وذراته، وإنسانه، وسائر جماداته، وسوائله، وأجرامه، وخلاياه يتحرك وفق أدق الأنظمة. حتى لكأنه هَبَاءٌ منثور.
لا شيء ساكن، كل مخلوق دق، أو جل في حركة مستمرة، لا يدركها إلا خالقها، ومدبرها.
هناك حركات مزدوجة كـ(الأرض) كتلة من ذرات متحركة، تدور حول نفسها، وحول الشمس. والشمس نفسها تجري لمستقر لها، أو لغير مستقر، كما في بعض القراءات.
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
الخلية تتحرك ذاتاً، ومكونات. والحياة السوية تتحرك ذاتاً، ومكونات. والحركة ملمح من ملامح الحرية المقيدة بالضوابط.
(الحرية) حركة منضبطة. ومن أراد لها الانفلات، والفوضى دمر الحياة السوية، إذ ليست كل حركة رشيدة، ومُفِيْدة.
(الحرية) مصطلح، وكل مصطلح له هوامش مخادعة. والمتمردون المنحرفون حين يحيلون إلى تلك الهوامش، ويَحْتَمُون بها، إنما يبررون شطحاتهم الفكرية، وسقطاتهم السلوكية، وحينئذ يفقد المصطلح مقاصده، ويتحول إلى ضده.
المعروف أن المعنى اللغوي الوضعي لأي كلمة، حين يتحول إلى مصطلح تصبح الدلالة الوضعية ثانوية. فالكلمة المصطلحية تنداح لمقاصد أوسع، وأشمل.
وكل نحلة، أو ملة، أو مذهب تدحو المصطلح بما يناسب الأصول، والقواعد المعتبرة عندها، ولهذا فكل مصطلح له مشمولاته المرتبطة بتلك الأصول، والقواعد.
ولأن (الحرية) مصطلح متعدد الانتماءات، فإنه لا يكون على وتيرة واحدة.
وعلى الذين يتداولون المصطلحات، ويحتمون بها، ويبررون أفعالهم بمفاهيمها أن يعرفوا انتماءاتها، ومنطلقاتها، وخلفياتها الثقافية، والمعرفية.
فـ(الليبرالية) مثلاً تعطي (الحرية) مفاهيم، ومقتضيات تناسب مشاربها المتعددة، وتحولاتها المستمرة، ومفاهيمها المتنوعة.
ومصطلحها المنقول ينتمي جذره قبل الصياغة المصطلحية إلى (الحرية). ومن ثم ليست لها قيم معيارية يَرْجِع إليها (المتربللون). الواقع وحده الذي يمنحها الوجود، ويُحَمِّلها مقتضياته.
إنها تتشكل من أبعاد سياسية، واجتماعية، وأخلاقية. قد تكون متناقضة، إذ لا أحد يستطيع تصور الحرية في ظل (الليبراليات) المتعددة بتعدد الظروف، و(الأيديولوجيات)، والأشخاص.
(الماركسية) لها تصورها الخاص. إذ حرية الجماعة عندها مقدمة على حرية الفرد. فيما تُغَلِّبُ (الرأسماليةُ) حرية الفرد.
أقطاب الفكر، والسياسة تتناقض عندهم (مفاهيم الحرية)، وكل قطب يرى أنه الأجدر بتحديد المفاهيم، وتحقيق المقتضيات.
للحرية عند المُتَبَدِّين مفهومها العفوي، وللحرية المتحضرة مفهومها المعقد القائم بعبء الحقوق، والواجبات، التي لا تعرفها الحرية الفطرية.
الحرية المتحضرة تقوم على الانتقاء، والتنقيح، والنَّفْي، والإثبات.
فيما تكون حرية (الانقلابيين العسكريين) دموية تتحقق من خلال التصفية الجسدية،
وللحُرِّيَّةِ الحَمْراءِ بَابٌ ** بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
أما الحرية السَّوية فتقوم على تصفية الأفكار من الشوائب، وتنقية الأخبار من الكذب، وتربية العقول على التسامح، والعفو، والعدل، والمساواة.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]
إنها أخذٌ بالأحسن، وإعراضٌ عن الاقبح، وإصلاحٌ للسلوك، وذات البين.
ولأن المفترض أن تكون (الحرية) مفهوماً بسيطاً، يشكل قاسماً مشتركا بين المحظور، والمباح يتنفسه المصدور، لا نظرية معقدة، أو فلسفية جدلية.
لقد ربطت (الليبرالية) الجديدة بين الحرية الفردية، وكرامة الإنسان.
المفكر العربي (عبدالله العروي) المنظر للدولة، وللحرية. يستبعد تحققها في ظل الدولة السلطوية، بل يكاد يستبعدها في ظل السلطة المشروعة. يقول بكل امتعاض:- (الحريةُ تَطَلُّعٌ إلى شيءٍ غَيرِ مُتَحَقِّقٍ).
ما أود تقريره في ظل الفوضى المربكة أن الحرية السوية بشقيها: الحركي، والفكري تقوم على سوقها في ظل الدولة التي تحترم إنسانية الإنسان. بحيث تمكنه من ممارسة شعائره الدينية، وعاداته الاجتماعية، وتحفظ له ضروراته الخمس.