عماد المديفر
تعد العلاقات العامة من العلوم الحديثة، وإنْ كانت كفلسفة، قديمة قدم المؤسسات البشرية، بيد أنها إذ ذاك، مجرد ممارسات اتصالية بدائية، تقوم غالباً على الاتصال الشفهي، ولم تُعرف بشكلها المعاصر إلا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي على يد آيفي لي Ivy Lee الملقب بأبي العلاقات العامة، كونه أول من وضع مبادئها المهنية، فيما كان إدوارد بيرنيز Edward Bernays من أهم الرواد الذين تولوا بعد آيفي لي الدور الأكبر في دفع العلاقات العامة نحو مرحلة التقنين كعلم، وكان أول من أجرى دراسات حول العلاقات العامة، وتناولها من الجوانب النفسية والاجتماعية، وأصدر المؤلفات في هذا المجال، ودَرَّسه بشكل أكاديمي.
غير أن هذا العلم الحديث لا يزال طور النمو في بناء النظرية، إذ يصعب القول بوجود نظرية موحدة ومختبرة في العلاقات العامة، وإنما هي مفاهيم وأطر نظرية، حتى بدأ عالم العلاقات العامة جيمس قرونيق Jams Grunig ورفاقه، عام 1976م، بإجراء سلسلة من الدراسات، بهدف الكشف عن سلوك العلاقات العامة في المنظمات، وتحديد تطبيقاتها، كـ«مهنة وحرفة ذات طابع اتصالي»؛ فتوصل إلى نماذجه الوظيفية الأربعة عام 1984م، وليقدم بذلك أولى المفاهيم النظرية التي تصف الكيفية التي تمارس بها العلاقات العامة، وتؤرخ لمراحل تطورها، وأمكن اعتبارها نظريات معيارية.
لقد أحدثت هذه النماذج الأربعة نقلة في مجال دراسة ممارسة العلاقات العامة. ويرى قرونيق أن نموذج «الاتصال المتوازن ثنائي الاتجاه» الذي توصل له عام 1984م يمثل المعيار الأساس للعلاقات العامة الممتازة كونه قائمًا على الحوار، والفهم المتبادل بين المنظمة وجمهورها. وقد عمل قرونيق وفريقه عشر سنوات من الدراسة بعد ذلك، بهدف وضع نظرية مختبرة في العلاقات العامة، فقام بتطوير نموذجه الرابع إلى نظرية «الامتياز» في العلاقات العامة، أو ما أسماها أيضاً بنظرية «المبادئ العامة المحددة، والتطبيقات الخاصة»، بيد أن هذه النظرية، كما هو النموذج الرابع، واجه الكثير من الانتقادات، حيث يرى الكثير من الباحثين بأنه من غير الواقعي على المنظمات القوية والكيانات الضخمة تقاسم السلطة مع الأفراد أو المجموعات الصغيرة، كما شكك آخرون في مدى نجاحه في بيئات وثقافات أخرى، لا سيما أن قرونيق ورفاقه طبقوا دراساتهم بدايةً في الدول ذات الثقافة «الانجلو - أمريكية»، ولم يختبروها -آنذاك- في ثقافات أخرى. هذا الأمر؛ دعاهم بعد ذلك لمزيد من الأبحاث التطبيقية على هذه النماذج في ثقافات، ودول، مختلفة في النظم السياسية والاجتماعية، ونظم وسائل الإعلام، والمستويات الاقتصادية. وهو ما أدى إلى توصل الباحث كريشنامورثي سريرميش Krishnamurthy Sriramesh لنموذج آخر موجود ومطبق في عدة ممارسات للعلاقات العامة، لم يأت على ذكره قرونيق ورفاقه في نماذجهم الأربعة، أسماه نموذج «التأثير الشخصي»، وإن بدى أنه غير أخلاقي، إذ وجهت له هو الآخر العديد من الانتقادات؛ كونه لا يلتزم مبادئ العلاقات العامة وميثاقها.
كما ظهر نموذج «المترجم الثقافي» الذي تم الإفادة منه بعد ذلك في بناء نظرية الامتياز ذات المبادئ العامة، والتطبيقات الخاصة، وتحديداً في جزئية التطبيقات الخاصة، بحسب طبيعة الجماهير في البلدان المختلفة، التي ترتكز على: الثقافة واللغة، والنشاط أو الحراك، والمتغيرات الاقتصادية، والسياسية، ونظم وسائل الإعلام، ومستوى التنمية. وبتحليل النماذج الأربعة، توصل الباحثون لوجود تأثيرات لأربعة أبعاد: (شكل الاتصال، ومدى التوازن، والوسيلة، والأخلاقيات)، وهو ما يطلق عليه «الأبعاد الأربعة».
ولندرة التناول العربي لهذه التطورات؛ أرى بأنه من الأهمية بمكان تسليط الضوء عليها، عبر تقديم سلسلة من المقالات التأصيلية التي تتناول ما أحدثه نموذج الاتصال المتوازن ثنائي الاتجاه، من جدل، وما تبعه من ظهور لنماذج، وأبعاد متعددة، أثرت الأطر المفاهيمية والنظرية في مجال بحوث الممارسة في العلاقات العامة، وحماية الصورة، وإدارة السمعة. وهو ما سأقوم به خلال الفترة القادمة بمشيئة الله.
إلى اللقاء