د.عبد الرحمن الحبيب
أصبح من الشائع بمواقع الشبكات الاجتماعية تناقل مقاطع فيديو للاستمتاع والضحك بعضها فيه إحراج أو أذى للآخرين أو حتى تدمير معنوي لحياتهم، حيث تنتشر أسوأ المناظر البشعة غير الإنسانية وحوادث مأساوية مميتة يتم تصورها للتسلية والفرجة الساذجة، دون مراعاة مشاعر الضحية أو أهله أو حساسية بعض المشاهدين.. وحتى في الحالات غير المأساوية تُنشر أدق خصوصيات الناس المحرجة لمجرد المتعة بينما تدفع الضحية ثمناً معنوياً باهظا..
كثير من تلك الممارسات يصعب ضبطها بالقوانين ولا يمكن السيطرة عليها بالتشريعات (قواعد مكتوبة)، بل عبر قيم وأخلاقيات (قواعد غير مكتوبة) وإيقاظ الوعي بمشاعر الناس المعروضين في مشاهد الفيديو. من هنا يمكن القول إن هناك مستويين لضبط أخلاقيات النشر بوسائل التواصل الاجتماعي: مستوى معنوي ذوقي وآخر مادي عملي.. الأول يصعب السيطرة عليه بالإجراءات الاعتيادية والعامل الأكثر تأثيراً فيه هو الوعي الأخلاقي والثقافة وتنمية الإدراك بمشاعر الآخرين، أما الثاني فملموس يمكن رصده وقياسه والسيطرة عليه بالتشريعات والإرشاد القانوني، كنشر الأخبار المزيفة عن قصد أو مقاطع فيديو تخترق بشكل واضح خصوصية الآخرين، أو أناس يعتدون على حقوق الآخرين دون وعي منهم بأن ذلك خطأ أخلاقي، هؤلاء يمكن محاسبتهم أو توعيتهم، مثل من ينشر عملاً ويلصق به صورة دون إذن صاحبها يمكن مواجهته بقانون حماية الملكية الفكرية وتوعيته بذلك.
الإشكالية الأساسية لكلا النوعين ثقافية وأخلاقية، حيث تم في ثقافة الإنترنت تحويل المعرفة من قيمة عقلية إلى قيمة متعة للفرجة السريعة يتم استثمارها كقيمة تجارية إعلانية؛ فتتحول المشاهد المؤلمة إلى بضاعة في سوق الإنترنت.. مما يعني في نهاية المطاف تحويل العلاقات الإنسانية إلى علاقات تجارية كجزء أساسي من أخلاقيات مجتمع المعلومات. هذه الإشكالية الأخلاقية تحتاج لتحليل هيكلة مجتمع المعلومات ومواقع الشبكات الاجتماعية لفهم أعمق للاعتبارات الأخلاقية، وربما إعلان قواعد اعتبارية غير رسمية لتطبيق العمل الأخلاقي في الممارسة الاجتماعية بالإنترنت، إضافة بطبيعة الحال إلى القواعد القانونية المكتوبة.
ورغم أن الشبكات الكبرى مثل جوجل وفيسبوك وتويتر تعلن باستمرار وضعها لمعايير أخلاقية تتبعها وكذلك مبادئ المسؤولية الاجتماعية للمشاركات والنشاطات التفاعلية؛ مثلما ضاعف فيسبوك من فرق الأمن الإلكتروني لديه إلى 20 ألف شخص، وأغلق عدداً كبيراً من الصفحات التي تنشر الأخبار المزيفة بالسنة الماضية (2018)؛ إلا أن هذه المعايير الأخلاقية التي تعلنها تلك الشبكات لا تتطابق بالضرورة مع الواقع؛ فلا يزال يحدث وبكثافة إساءات أخلاقية كاختراق الخصوصية أو الملكية الفكرية أو خطابات الكراهية أو الأخبار المزيفة..الخ. هناك أيضاً، معايير دولية وقوانين داخل كل دولة تنمو باستمرار لمواجهة الإساءات.
فما هو وضع القوانين الدولية لأخلاقيات مجتمع المعلومات؟ الوضع يتحسن، لكن لا يزال هناك افتقار للمحاسبة على تطبيق المعايير الأخلاقية بإدارة الإنترنت وتطوير الأفكار لتحسين بيئة الأخلاقيات رغم جهود اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في مساعدة المنظمات المعنية بأخلاقيات المعرفة، مثل منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي يعد أكبر تجمع سنوي بالعالم لمجتمع «تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجل التنمية»، حسبما استخلصته دراسة شاملة بعنوان «الأخلاقيات في بيئة الإنترنت» لأستاذ القانون بجامعة زوريخ رولف فيبر.
ومن أهم المنظمات المختصة هي شبكة الأخلاقيات العالمية (Global Ethics Network) المعنية بأخلاقيات مجتمع المعلومات. وقد وضعت لذلك سبع قيم أخلاقية أساسية ذات صلة بتطوير مجتمع المعلومات، وهي: العدالة والمساواة (للوصول للمعلومات)، الحرية، الرعاية، التعاطف، المشاركة، التقاسم، الاستدامة، المسؤولية. هذه القيم تتجلى في تسعة موضوعات أساسية لمجتمع المعلومات والمعرفة: المبادئ، المشاركة، الأشخاص، المهنية، الخصوصية، القرصنة، الحماية، السلطة، وضع السياسات. وتذكر المنظمة أنه لأجل مواجهة ما يؤثر على قيمنا الأخلاقية وضبط أخلاقيات الإنترنت يجب اقتراح التشريعات وفرضها.
فإلى أين يمضي مجتمع المعلومات بالإنترنت؟ المعلومات صارت تتشكل عبر الإنترنت في شبكة اتصالات تضم ملايين الأفراد عبر القارات؛ ولكي ينجح الموقع الإلكتروني لا بد أن ينتشر، واستمرار الانتشار يتطلب دعماً مالياً، وهذ الدعم لا يأتي من قيمة المعلومة ذاتها بل من الإعلان التجاري، والمعلن يتوجه للجماهيرية، وتلك لها شروطها.. فتضطر الشبكات لنشر أخبار ترضي الزبائن كي تجذبهم، بغض النظر عن المصداقية أو الجدارة أو الابتكار. هنا تتشكل ثقافة الاستهلاك السريع، مع سيطرة ثقافة المشهد عبر مقطع قصير سهل الفهم يُعرض بطرق حادة الإثارة، أو نص يحمل نفس السمات. أغلب المعلومات بهذه الثقافة مختصرة ومجتزأة من سياقها وغير موثوقة، تسقط الحدود بين الواقعي والافتراضي.. وبين الحقيقي والمزيف..
الخلاصة، أن الإعلان التجاري هو بنهاية المطاف المحرك الرئيسي لهذه الأعمال وهو العامل الرئيسي في تشكيل أخلاقيات مجتمع المعلومات الذي بدوره يشكل أخلاقيات مواقع الشبكات الاجتماعية والتي بدورها انتقلت لبعض كبرى المؤسسات الإعلامية.. وإذا كان ثمة تفاؤل، فإنه يتم حالياً مواجهة ذلك بتطوير وإقرار مدونات أخلاقية من دول عدة في مؤتمرات مختلفة.. إلا أنه يجب الاستمرار بالعمل لتكون مدونة الأخلاق وثيقة حية ملموسة، مع إيجاد طرق لتطبيق الأخلاق والتفكير الأخلاقي، حسبما ذكرت شبكة الأخلاقيات العالمية لمجتمع المعلومات.