ضمن جلسات مؤتمر أبوظبي الدولي للمخطوطات الذي تنظّمه دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي، ألقى الدكتور: علي بن ناصر الجماح محاضرة علمية عن جهود «رائد تحقيق الشعر العربي» الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل في تحقيق الشعر العربي القديم، وعقدت الندوة يوم الأحد 17 يناير 2019م، في منارة السعديات بالعاصمة الإماراتية أبوظبي.
وجاء في المحاضرة ما نصه: (العمل على خدمة التراث ونشره عمل جليل، وواجب قومي وثقافي، ومن أنفس هذا التراث الشعر في عصوره الزاهية.
والبحث عن هذا الشعر في كتب التراث واستخراجه وتحقيقه وتبويبه من أفضل ما قدمه علماؤنا الرواد، وما يمكن أن يقدم عليه الباحثون في ظل تعدد وسائل البحث وسهولة أدواته.
ومن الحق أن نشيد بجهود علمائنا الذين أسهموا بقدر كبير في ذلك، ومنهم الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل الذي صدرت لها مؤلفات تصب في خدمة الشعر وتحقيقه، وفي مقدمتها عنايته بشعر القبائل من خلال تأليفه ثلاث مدونات فيه، وتشجيعه طلاب الدراسات العليا للتسجيل فيه، والإشراف على الأعمال المقدَّمة عنه.
ومن هذا المنطلق الذي ذكرته وهو التنويه بجهود الرواد آثرت أن يكون هذا البحث الموجز معرِّفاً بالفيصل ونتاجه، ومبيِّناً العوامل التي أثرت في توجهه لهذا النوع من التأليف، وما أسهم به من جهود في ذلك، وبالله التوفيق).
تمهيد:
التعريف بالفيصل:
ولد الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل في عودة سدير سنة 1362هـ/ 1943م، وأنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة في سدير، ثم انتقل للرياض وحصل على الثانوية من المعهد العلمي، ثم التحق بكلية اللغة العربية في الرياض وتخرَّج فيها في العام الجامعي 1388هـ/ 1968م، وبعد تخرّجه عمل في عدة مناطق منها المدينة المنورة والغاط والقصيم وكانت الرياض محطته الأخيرة، حيث عمل ولا يزال في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أستاذ الدراسات العليا.
حصل على شهادة الماجستير في كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر سنة 1394هـ/1974م.كما حصل على درجة الدكتوراه في الكلية نفسها، تخصص أدب ونقد في سنة 1398هـ- 1978م.
ترقى في السلك الأكاديمي ليصل إلى درجة أستاذ، وتولى أعمالاً إدارية مختلفة، ويعد أول عميد للدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومثَّل الجامعة في عدد من المؤتمرات والندوات داخل المملكة وخارجها.، وأشرف على كثير من الرسائل العلمية، كما اشترك في مناقشة كثير منها في الجامعة وخارجها.
كتب في الصحف والمجلات منذ أن كان طالباً في كلية اللغة العربية، ومنها: مقالات في الجزيرة، والفيصل، واليمامة، والمدينة، واليوم، والعروبة الإماراتية، والمجلة العربية، وله عمود أسبوعي في الجزيرة استمر عشرين سنة، وله أحاديث وبرامج في الإذاعة منذ ثلاثين سنة.
نال عدداً من الأوسمة والجوائز والشهادات، من مؤسسات ومنتديات علمية مرموقة، وأصدرت المجلة الثقافية بصحيفة «الجزيرة» عدداً خاصاً عن د. الفيصل، شارك فيه نخبة من أعلام الفكر والثقافة.
تنصب اهتماماته في شِعْر القبائل العربية، والأدب، التاريخ، والنقد، وأنساب القبائل، ومعرفة البلدان، والشعر الشعبي، والتاريخ الشفهي، وله في ذلك أكثر من عشرين مؤلفاً من أهمها:
- شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، في جزءين، طُبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة سنة 1398هـ/ 1978م.
- شعراء بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، جمعاً وتحقيقاً ودراسة، في جزءين، طُبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض 1408هـ/ 1987م.
- شعر بني عبس في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، جمعاً وتحقيقاً ودراسة، في جزءين، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1411هـ/ 1990م، والطبعة الثانية مطابع الفرزدق 1414هـ/ 1994م.
- ديوان الصمة بن عبد الله القشيري، جمعاً وتحقيقاً، نشر النادي الأدبي بالرياض سنة 1401هـ/ 1981م.
- قضايا ودراسات نقدية، طُبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1400هـ/ 1979م، والطبعة الثانية بمطابع حنيفة، الرياض سنة 1401هـ/ 1981م.
- من غريب الألفاظ المستعمل في قلب جزيرة العرب، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، سنة 1407هـ/ 1987م.
- مع التجديد والتقليد في الشعر العربي، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، سنة 1414هـ/ 1993م.
- شعراء المعلَّقات العشر، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى 1423هـ/ 2002م.
- رؤى وآفاق، في ثلاثة أجزاء، مطابع الحميضي، الرياض 1426هـ.
- ديوان الصمة بن عبد الله القشيري، ط2، الرياض، مطابع الحميضي 1428هـ/ 2007م.
- مصادر الأدب عند ابن خلدون، صدر في الرياض 1432هـ.
جمع شعر القبائل في العصر الحديث
آثرت قبل أن أدلف إلى جهود الفيصل في جمع شعر القبائل أن أقف على جمع شعر القبائل ودراسته في العصر الحديث، عن طريق دراسة مسحية استعنت فيها بقوائم الدراسات التي أخرجتها عدد من الجامعات أو أصدرتها دور الكتب، أو حفلت بها الشبكة العنكبوتية، ومع أنني بذلت جهداً كبيراً في ذلك؛ فلا أدعي أني أحطت بكل ما صدر من مدونات في هذا الباب، ولكني أزعم أنني أتيت على أكثرها، وهو ما يعطي قدراً من الطمأنينة للنتائج التي توصلت إليها، وقد جمعت ما يقارب ثمانين مدونة.
وتأتي أقدم الدراسات في الستينات من القرن الماضي، حيث ظهرت دراسة للأستاذ أحمد زكي عام 1952م من جامعة القاهرة عنوانها: «شعر الهذليين في العصرين الجاهلي والإسلامي- نقد وتاريخ».
وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بدأ التوجه نحو دراسة شعر القبائل من خلال ست مدونات كانت إحداها للدكتور عبد العزيز الفيصل عن شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، من جامعة الأزهر عام 1978م.
أما العقد الذي شهد ازدهاراً واضحا في جمع شعر القبائل فكان عقد التسعينيات؛ إذ صدرت إحدى وعشرين مدونة من جهات علمية متعددة، ثم تتابعت المدونات عن شعر القبائل بنسق أقل في العقود التالية.
وتأتي الجامعات في مقدمة المؤسسات العلمية التي عنيت بهذا النوع من التأليف، وهو أمر محمود؛ إذ يخضع لمعايير علمية دقيقة ولجان تحكيمية تقضي بسلامة هذه المدونات، وتعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية في مقدمة الجامعات التي عنيت بهذا النوع من التأليف؛ إذ صدرت عنها اثنتا عشرة مدونة، تلتها في ذلك جامعة القاهرة بتسع مدونات، ثم جامعة الأزهر بسبع، وجامعة الإسكندرية بخمس مدونات.
ولعل هذا السبق لجامعة الإمام نابع من وجود الدكتور الفيصل ضمن كادرها الأكاديمي؛ إذ شجع طلاب الدراسات العليا على خوض غمار البحث في هذا النوع من التأليف، وأشرف بنفسه على أكثر هذه الرسائل.
ويبلغ عدد المدونات التي جمع مؤلفوها بين الجمع والتحقيق والدراسة خمسون، وكانت بقية المدونات مختلفة في طبيعة تناولها؛ إذ أشار مؤلفوها إلى الدراسة الفنية بتسميات مختلفة، منها: دراسة فنية، أو موضوعية، أو تحليلية، أو أسلوبية، أو معجمية.
كما يتضح أن أكثر المدونات التي عنيت بشعر القبائل تناولته في الفترة الممتدة من العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأموي حيث بلغت سبعاً وأربعين مدونة، فيما اقتصرت ست عشرة منها بجمعه ودراسته في العصر الجاهلي، وجاء تسع منها بجمعه ودراسته في العصر الجاهلي وصدر الإسلام.
بقي أن أشير إلى أن شعر بعض القبائل حظي بمدونات أكثر من غيرها، ومرد ذلك إلى ضعف التواصل بين الجامعات في تلك المراحل الزمنية المتقدمة، وما يغري به تاريخ بعض القبائل من أحداث كثر بسببها شعر القبيلة، كقبائل تغلب وذبيان، وبني عامر، وطيء وضبة، وبني سليم وثقيف.
جهود الدكتور عبد العزيز الفيصل في تحقيق دواوين القبائل
- المؤثرات والدوافع:
من المؤكد أن كل إنسان تتشكَّل حياته وتوجهاته من خلال مؤثرات دينية وبيئية واجتماعية وثقافية، وأحسب أن الشغف الذي لازم الفيصل بالأماكن منذ نشأته كان له أثر كبير في بحثه عن الشعر الذي وردت فيه أسماء الأماكن، والوقوف عليها من خلال البحث عنها في كتب البلدان، والرحلة إليها حقيقة، ثم ما كان بعد ذلك من توجه لجمع شعر القبائل ودراسته، وقد قوى من هذا الشغف لديه أمور من أهمها:
1. بيئته التي ولد فيها وأمضى فيها سنواته الأولى، فقد اتضح من سيرته أنه ولد في عودة سدير، وهي تبعد عن الرياض مقدار مئة وستين كيلا، وهي في قلب نجد، ومن خلالها أدرك أهمية المكان، وماذا يعنيه حين يجده في بيت من الشعر، من هنا نشأت تلك الحميمية للمكان، يؤكد على قوله: «المكان في الجزيرة العربية يحل سويداء القلب، فهو باعث الشعر وجالب الرؤى وجامع التخييل، به يلتئم الشعر وتتوارد الخواطر، فكأن شياطين الشعر تقطن بجانبه، وأرواح الأحبة تطير في سمائه لقد مالت القلوب إلى سماعه، وطار الطيف إلى الحلول فيه، فما أعذب لفظه وأحلى لحن حروفه، فكلماته نغمات تجلب السرور، وذكرياته تغمر بالفرح والهناء والحبور، أنطق القريب منه بالشعر الرقيق، وأوحى إلى البعيد عنه بمعاني الحب، فنسجت الأشعار فيه بالوحي، وهامت الخيالات فيه بالسماع، فيا ليت شعري ما الذي أودع في المكان في الجزيرة العربية حتى يسحر الشعراء، ويضفي ظله على خيالاتهم فتجود بما لم يستطيعوا قوله في غيره».
2. حبه للرحلة وشغفه بالانتقال بين الآثار والأماكن التاريخية في نجد، وما ورد من تلك الأماكن في شعر القدماء، ويذكر الفيصل أنه سعى إلى «معرفة أماكن الشعراء والوقوف عليها استرشاداً بأشعارهم، وأشعار شعراء قبيلتهم، ثم معرفة الجبال والأودية، وما قال عنها الرواة القدامى، ثم الاستئناس بما ورد في معاجم البلدان القديمة»، ويذكر زميله الدكتور محمد الربيع أنه في الوقت الذي تمر عليهم أسماء الأماكن في المعلقات وغيرها دون اهتمام نجد أن الفيصل يحرص على معرفة تلك المواقع والرحلة إليها، كما يذكر أن للفيصل في ذلك رحلة أسبوعية قصيرة، وأخرى صيفية أو شتوية طويلة.
3. تنقله بعد تخرجه من كلية اللغة العربية؛ فقد عين في المدينة المنورة، ثم في الغاط، ثم بريدة في القصيم، حتى كانت الرياض محطته الأخيرة، وهو في كل مكان يذهب إليه، يقف عند معالمه، وتشده تلك الهواية المتأصلة فيه إلى البحث عن المواقع التأريخية، وما ارتبط بها من أحداث، وما ورد فيها من شعر، ومن سكن فيها من القبائل، وأكتفي هنا بما أشار إليه حين حط رحاله بالمدينة، وما حظي بها من رفقة طيبة تنقّلوا معه، وكيف كانت تلك السنة التي قضاها فيها زاخرة بالتعرف على الأماكن التاريخية فيها كمقابر الشهداء، وموقع غزوة الخندق، وجبل سلع، والمساجد السبعة، والحرتان الشرقية والغربية، وسد العاقول، وغيرها من الأماكن.
- رحلته في جمع شعر القبائل:
تأتي مرحلة مهمة في حياة الفيصل قادته إلى جمع الشعر ودراسته، وأحسب أن شرارتها الأولى كانت باختياره شعر الصمة القشيري موضوعاً لرسالة الماجستير عام 1974م.
حيث أدرك من خلال ذلك أهمية التوجه إلى معين خصب، وهو شعر القبائل المبثوث في مصادر متعددة من كتب التراث، ومن ثم اختياره في مرحلة الدكتوراه شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، عام 1978م، وهو يوضح في مقدمته أن من أهم الأسباب التي دعته لاختياره رغبته في خدمة لغة القرآن، ونشر وإظهار الشعر الذي قيل في فترة البحث، حيث إن أكثره ما زال مغموراً في كتب التراث المخطوطة والمطبوعة. وهو يشير إلى الأثر الذي أحدثه تسجيله لهذه الرسالة بقوله: «وأذكر أن رسالتي في شعر القبائل فتحت الطريق لطلاب الدراسات العليا فاتجهوا إلى الطريق الذي سلكته وسُجلت رسائل في شعر القبائل في جامعة الأزهر وجامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وامتد الاهتمام بشر القبائل إلى جامعات الدول العربية الأخرى كما امتد إلى جامعات المملكة».
ثم كان مؤلفه الثاني عن شعر القبائل، وهو شعراء بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي جمعا وتحقيقاً ودراسة 1408هـ/ 1987م، وهو يوضح فيه أن وقوفه على بلدان الشعراء، ومشاهدة الجبال والأودية والدارات التي ذكروها في شعرهم هي من دفعته للتأليف وخدمة الشعر القديم، وهو ما سبق أن أكدته من خلال حديثي عن أهمية المكان عند الفيصل.
كما أشار في المقدمة إلى أنه لاحظ في أشعار المقلين قصائد ومقطعات لا تقل أهمية عن قصائد المكثرين من الشعراء، وهذا النتاج عند المقلين لا يضمه إطار واحد فكان التوجه إلى شعر القبائل كفيل بإظهار تلك القصائد والمقطعات من مضانها في كتب كثيرة قد لا تكون مخصصة للأدب، أو جامعة للشعر.
ومن المؤكد أن ما أشار إليه الفيصل من الأهمية بمكان؛ إذ يدرك من عاش تجربة جمع شعر القبائل أنه يجد قصائد ومقطعات رائعة لم يهتد إليها؛ لكونها لشاعر مغمور، ولأنها كانت متخفية في مخطوط، أو كتاب لا علاقة له بالأدب.
أما كتابه الثالث في شعر القبائل فكان عن شعر بني عبس في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي جمعاً وتحقيقاً ودراسة وأصدره سنة 1994م، ويشير في مقدمته إلا أن تجربته السابقة في جمع الشعر ودراسته شجعته على المضي في إخراج هذا الكتاب، مع عدم وجود دراسة سابقة له.
والفيصل في كل مؤلفاته الثلاثة يملك من الخبرة التي اكتسبها مع الوقت، والحماس الذي توقد بداخله من خلال رحلاته ووقوفه على الأماكن؛ ما جعله يمضي في مشروعه برغبة وحرص عبر عنه بقوله: «نحن أبناء الجزيرة العربية نشأنا فيها وعرفنا جبلها وسهلها فإذا قرأنا الأخبار والشعر في كتب التراث المختلفة استوعبناها بسهولة»
ويقول عن جبل خزاز الذي دارت بقربه معارك خزاز بين عرب الشمال وعرب الجنوب - وكان السفاح التغلبي أوقد في أعلاه النار لتهتدي جموع مَعَدّ إليه، وقد أمر بذلك بأمر كليب بن ربيعة زعيم معد -: «وقفت على هذا الجبل وصعدت إلى أعلاه لعلي أجد أثرا لنار معد وعندما وصلت إلى أعلى الجبل وجدت صخرة تتربع أعلى الجبل، بمساحة خمسين متراً في مثلها وبارتفاع عشرة أمتار، فلم أستطع صعود هذه الصخرة، فنظرت من أعلى الجبل إلى كبد نجد فإذا بي أشاهد بالمكبر ما يبعد عن الجبل بستين كيلاً، حتى إنني أرى مدينة الرس وأنا في رأس الجبل، وعندما شاهدت تلك الأماكن من رأس الجبل أدركت حكمة السفاح التغلبي في إيقاد النار».
- منهجه:
اختط الفيصل منهجاً سار عليه في كتبه الثلاثة، ووجّه إليه طلابه في الدراسات العليا ممن سجلوا رسائلهم في شعر القبائل يقوم على تقسيم الكتاب قسمين رئيسين: خصص الأول منها للدراسة معرّفاً بالقبيلة وأنسابها وبطونها وأيامها وأعلامها وأماكنها ومياهها، كما وقف على أهم القضايا والأحداث التي برزت في شعر القبيلة، وتناول بعد ذلك الأغراض الشعرية، والمكانة التي حظي بها شعر القبيلة عند القدماء والمعاصرين، ثم يفرد فصلاً للخصائص الفنية، وخصص القسم الثاني لجمع الشعر وتحقيقه وتوثيقه من خلال المصادر التي أوردته، وما قد يرد من اختلاف بين الروايات، ووقف عند الأماكن مورداً ما سجّلته عنها معاجم البلدان، وما وقف عليه هو من هذه الأماكن، كما يشرح الغامض من الألفاظ، ويترجم للشاعر في أول نص يرد له، ويورد مناسبة الأبيات إذا أوردتها كتب التراث، ويبن في أول هذا القسم منهجه في تحقيق النصوص.
ولعل ما يميز أعمال الدكتور الفيصل عن شعر القبائل قدرته على التفاعل مع النصوص التي يقف عليها، وما يرد فيها من مواضع حيث يثبت ما ورد في المعاجم القديمة، وما توصل إليه من خلال وقوفه على المواضع، ويشير إلى ما جد من تغيير على الاسم أو أنه باق على اسمه ولم يتغير.
وهو يؤكد على أنه في كتبه الثلاثة عن القبائل بدأ بدراسة مستفيضة عن تلك القبائل شملت لهجاتها وحروبها وشعرها وتنقلاتها، ويقول: «كلّفتني هيئة السياحة بتحديد مسرح حرب داحس والغبراء، وأماكن زعماء الحرب وشعراء الحرب، فخرجت إلى تلك الأماكن الواقعة بين جبل طمية وجبل قطن وبينهما النقرة والحاجر، فحددت أماكن الزعماء والشعراء، ترشدني الجبال ورواية الرواة، فمشيت في الحاجر، ووقفت على مكان بيت زهير بن أبي سلمى، وزرت النقرة، والمسافة بين النقرة والحاجر في حدود ستين كيلا، واسترشدت بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «نعم الرأي بين النقرة والحاجر»... ومكان إقامة عيينة ووالده حصن وجده حذيفة بن النقرة والحاجر... وقد حددت المكان الذي توفي فيه عنترة استرشاداً بما تقدم، ووقفت في الغار الذي جلس فيه حذيفة بن بدر وقيس بن زهير عند انطلاق السباق، فالحاجر شاخص يطل عليه جبل قطن، وطول الحاجر في حدود عشرين كيلاً وعرضه أقل.» وهذه المعرفة الدقيقة بالأماكن جعلته يقف عند بعض آراء الدارسين في العصر الحديث ممن شككوا في الشعر الجاهلي، ويفند آراءهم، ويرى أن الجهل بالأماكن المرتبطة بالشعر الجاهلي أوقع طه حسين في خطأ تمثّل في إنكاره الشعر المنسوب إلى القبائل اليمنية ومنها قبيلة كنده، ولم يعلم أن لكندة ثلاث ممالك في نجد في العصر الجاهلي هي مملكة أكيدر الكندي في شمالي نجد، وعاصمتها دومة الجندل، ومملكة حجر والد امرئ القيس في وسط نجد، ومقر الملك القنان، ومملكة القرية في جنوبي نجد، من القرن الثالث الميلادي إلى نهاية القرن الخامس وعاصمتها القرية، وهي التي نقبت عنها جامعة الملك سعود، وأطلق عليها الفاو، وهي قريبة من السليل في وادي الدواسر.
ويبقى للفيصل جهد لا يقل أهمية عن إسهامه في التأليف في شعر القبائل، هذا الجهد تمثل في إشرافه على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه في شعر عدد من القبائل، تجاوزت العشر ولكوني أحد من حضوا بذلك، بإشرافه علي في شعر قبيلة ذبيان، فإن من الحق أن أذكر له كريم ما تفضَّل به عليّ من الوقت والتوجيه، والحرص الشديد منه على أن يتم العمل في صورة جيدة، وأتذكر أن في حالات متعددة كان يعيد المسودات التي أقدمها له أكثر من مرة حتى يراها وقد اكتملت على الصورة التي يرضاها. ويقول الدكتور محمد منور عن الفيصل: «له منهج علمي دقيق وصارم في تخريج النصوص وتحقيقها».
وبعد:
فقد بينت في التمهيد أن الفيصل كان في طليعة من اعتنوا بجمع شعر القبائل وتحقيقه ودراسته، وإذا كان الأستاذ أحمد زكي يعد أول من اهتم بشعر القبائل، من خلال دراسته شعر هذيل عام 1952م، فإنني أحسب أنه لم يجمع شعر القبيلة ذلك أنه مجموع قديماً.
وعلى ذلك يعد الفيصل مع عدد من المؤلفين في أوخر الثمانينات -ممن جمعوا شعر القبائل ودرسوه- هم الرواد في هذا النوع من التأليف، يُضاف إلى ذلك أن الفيصل ظل وفياً لنهجه ومنهجه مواصلا السير في هذا الاتجاه فأصدر كتابين هما شعراء بني عقيل وشعرهم، وشعر بني عبس.
وتأتي مزية أخرى تضاف إلى سجل الفيصل وهي كما أوضحت تبنيه لشعر القبائل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية، وإشرافه على عدد من الرسائل العلمية فيها.
ويسند ذلك كله أن الفيصل كان يعيش تجربة جمع الشعر ودراسته في ظل معرفة دقيقة بالمكان جعلته يتخيل الأحداث والأشخاص وكأنهم لا يزالون يتحركون على مسرح الحياة، وهو ما أضفى على دراساته وشروحه قدراً من المتعة والثقة.
ولعل فيما ذكره الدكتور عبد الله الوشمي ما يضيء جانباً من صفات الدكتور الفيصل حين قال: «ويمكن الإشارة إلى أبرز ما يشدني - وغيري كما أعتقد- في شخصية أ.د عبد العزيز الفيصل، وهما جانبان؛ خلقي وعلمي.
أما الخلقي، فهو ما يتواطأ كثيرون على الإشادة به، ويتمثّل في العزلة العلمية، والإخلاص في البحث، والنبل في التعامل، واللطف والهدوء والرزانة، وهي سمات يعرفها من اقترب منه، أو هاتفه، أو سمعه، بل إني أزعم أنها تنضح في كتاباته أيضاً، من حيث الأسلوب في النقاش والحوار ومساءلة الآراء.
وأما العلمي، فهو أنه صاحب مشروع علمي لا ينقطع عنه، حيث قام منذ رسالته للماجستير بالبحث في جمع ودراسة شعر القبائل العربية، واستمر على هذا المشروع، فألَّف وكتب وبحث، ورعى ما أنتجه طلابه في هذا السياق، وإن كان لم ينقطع عن غيره من الكتابات» ويقول عنه زميله الدكتور محمد الربيع الذي رافقه لأكثر من نصف قرن: « نموذج إنساني فريد، قليل الكلام، منقطع للعمل والقراءة والتأليف، منزله كان لفترة طويلة - ولا يزال -منتدى الأصدقاء نلتقي فيه، نناقش، ونتحاور، ونتفق، ونختلف».
وختاماً: فإن ما قدّمه الفيصل من خلال التأليف والإشراف والمنهج الذي ألزم به نفسه وطلابه كل ذلك يعطيه الحق في أن يكون علماً ومرجعاً في هذا النوع من التأليف، ولا يكاد يذكر شعر القبائل في مجتمع علمي إلا ويذكر الفيصل وريادته في هذا المنحى العلمي الأصيل.
المصادر والمراجع:
1. ببليوجرافيا الرسائل العلمية في الجامعات المصرية منذ إنشائها حتى نهاية القرن العشرين -الأدب والبلاغة والنقد الأدبي- تصنيف الدكتور محمد أبو المجد البسيوني، نشر مكتبة الآداب.
2. جريدة الجزيرة السعودية، وملحقها: (الجزيرة الثقافية العدد 396 في 4-4-1424هـ 14-2-2013م. (ملف عن الأستاذ الدكتور عبد العزيز الفيصل عنوانه: عبد العزيز الفيصل رائد جغرافيا الشعر).
3. شعر بني عبس في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، جمعاً وتحقيقاً ودراسة، في جزءين، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1411هـ/ 1990م، والطبعة الثانية مطابع الفرزدق 1414هـ/ 1994م.
4. شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، في جزءين، طُبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة سنة 1398هـ/ 1978م.
5. شعراء بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، جمعاً وتحقيقاً ودراسة، في جزءين، طُبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض 1408هـ/ 1987م.
** **
- بقلم/ الدكتور علي بن ناصر الجماح