د. خيرية السقاف
العقل وحتى نهاية البشرية لا تتغير نواميسه..
ويبقى هو مصنع الابتكار، لأنه هو مستودع الأفكار..
مكنة العطاء تدور ترسانتها داخله..
زناد القدح من لحائه، ورحم الأجنَّة قلبُه..
إذا ما مرَّ الزمن بالحقب، وتمادى الإنسان في التغيُّر، وتبدل كل ما حوله، فإن المنجم هذا العقل فيه..
وإنه كذلك مصنع، لا ينتج ما يفنى على المطلق، ولا يُضيف ما يبقى للدوام،
فالمنتَج، والمضاف في مكنونه، وعنه متداخلان متفاعلان دائمان مع مراحل الوقت، متوافقان عند حلول كل مرحلة مع زمنها المضاف..
إذ كل ما عنه، ومنه مضافٌ لما كان عنه، ولما سيكون منه، والزمن في سيرورته يمضي بهما معًا!!..
العقل البشري في الإنسان موضوعٌ حيوي ذاته، عند كل ذاتٍ تحمله..
فلا يحدث أن أحدًا من البشر لا يضع يده حيث يكمن عقله في أية لحظة يكون في عجزٍ عن بلوغ فحواه، أو معرفة سرِّه، فلا يحار، مع أنه عقله الذي في رأسه!!..
فعلى مر الزمن، البشر مذهولون بعقولهم!!..
منبهرون بمكنونها!!..
ومخرجاتُها مثيراتٌ لدهشتهم، بل ربما لجنونهم!!..
إن كل الذين قالوا فيه، علمًا، ودرسًا، وفلسفة، وتخيلاً، جزمًا، واحتمالاً، اتفاقًا، ومُمكناً لم يبلغوا اكتفاءً منه، ولا مكَّنتهم عظمته فيهم، من إعجازه كليَّة..
فهذه المجتمعات البشرية وهي تتجدد في ومضة الثانية، تتغير، تطور، تتقلب فيها أوجه مُنتجه بالأمس على وجهٍ آخر مستَجدٍ في اليوم لواقع يحلَّ، بمعطياته المطورة المضافة بما هو صناعته وحده!..
نعم هو هذا العقل في الرأس البشري !..
وتتراكم السرديات عن تطور الحقب، وتغير الحاجات، واختلاف أوجه الحياة، وجميع ذلك صناعته..
والإنسان كلُّه تتغير فيه الصفات، وتتبدل له الحاجات، لكن ما كان فيه لا يفنى، وإن ذاب فيما حلَّ، وما حلَّ به لن يبقى، لكن ليندمج فيما سيأتي....
ففي مصنع العقل، البدائل المنتَجة لا تميت المستبدَل، وإن تغير شكلُ المستَجَد البديل، واختلف!..
عقل المرء إذا عمل، أضاف للطحين، وأنتج جديدًا من العجين ..
إن هذا المدهش في الإنسان، يقبع في جزء من رأسه، لكن صولجانه، يمتد لكل ما يتماس مع جوارح هذا الإنسان، وإحساسه، إنه يُجندها للتفاعل، والتبادل معًا، ومن ثم للإنتاج..
إنها حلقات متصلة، ودوائر مترابطة لا يتوقف مكوكها إلا بفناء البشرية!!..
أجل، إنه مخلوق مذهل هذا العقل..
وإنه عالمٌ مغرٍ هذا الذي ينتجه إنسانُه حتى يوم الفسيلة الأخيرة على الأرض!!..