د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تخذلنا ورقة «الزمن» ويستلبُ هدوءَنا الموتُ ونبقى في صفوف المشتاقين نرقبُ لقاءً في الفردوس؛ فللموت مواقيته الخاصة التي تحل وقد تأبطتْ نفوسا باهظة الأثمان؛ وذلكم موقف يفري الأحشاء ونتغصّصُهُ وقد لا نستوعبه، ولكنه اليقين والإيمان بالله الرحيم بعباده؛ فعندما فاضت روح والدي الحبيب إلى بارئها صافَحَنا اليقين: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة الإسراء آية 85)، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف 34). عاش والدي -رحمه الله- زمنه مكثّفاً فكان لديه ذخيرة إنسانية لا تنفد ولا تُستنفد، وفي منتصف هذا الشهر تحديداً (جمادى الأولى) استترت في غياهب الموت روحه الطاهرة فحضرت سيرته الملأى بمثالية عظيمة، وبموازين ثقيلة من مكارم الأخلاق، وبفيض غزير من الفعل الجميل والتعامل الأجمل، وتمت على يديه صفقات رابحة - بإذن الله- من صلة الرحم، والتواصل الأسري الفيَّاض والإسهام المجتمعي الغزير الذي لا يكل ولا يقِلّ! ولقد شاركَتْهُ الينابيع عطاءاتها وفيضها فروَّى فياضاً فأينعتْ؛ وكان بينه وبين النخيل وشائج قربى فاستطال صنيعه وامتد كما النخيل في عنان السماء، كان حلمه يبهرنا، وعفوه يشجينا، ووداده يغمرنا؛ وحلو حديثه يأسرنا، أما حواراته التي دائماً ما نشهدها فقد كانت وثائق ملأى بالفرائد والفوائد والتوجيه الأبوي الودود، وقد حمل والدي -رحمه الله- ذاكرة حفظ خميسية قادحة تحفظ شوارد الشعر الشعبي وترويه، ودائماً ما يستجلب الموروث الشعبي من أقوال الحكماء خلال حديثه ليستدل ويُقنع مجالسيه، وكانت له مجالس فيَّاضة مع خاله الشيخ الأديب عبدالله بن خميس - رحمهما الله.
واليوم وبعد وفاة والدي أضحتْ مآثره سجلَ ذكريات حيَّة يملأ وهجَها ما بين السماء والأرض - رحمه الله ...
وكانت البدايات المؤلمة عندما اعتلتْ هامته الشماء أدواء مرض (الزهايمر)؛ ذلك الضجيج المتأني في فراغات الذاكرة الذي أحاطه سبع سنين عجافاً غيّبَتْ الاحتفاء بحياتنا معه؛ وأحاطنا المرض معه -رحمه الله- بضغوط التقصير عن اختراع ما يعيده إلينا، وحرائق العواطف تجاهه عندما لا يستطيع البوح بما نحتاجه منه في كثير من هِنّاتِ حياتنا؛ وكم كُنّا نتمنى حضوره الذهني معنا حين الميزات الفريدة التي كان ينشدها ويتوق إليها لأنه صنعها ووضع قواعدها!
لقد كان والدي استثناءً ونادراً «وهي عبارة وسَمَهُ بها -رحمه الله- المعزّون الذين تقاطروا في وفاته كأنداء أفعاله - رحمه الله! ولذلك سيبقى المرض خصمنا اللدود؛ ولولا اليقين بالابتلاء من الله لطارت نفوسنا مع ذاكرته التي غادرتنا منذ مدة، وقد تغافلنا عن فجيعتنا في حياته أملاً في العودة بالعافية لتملأه من جديد لكن مقدرتنا لم تتوافر حين وفاته -رحمه الله- واستل الموت صبرنا وتماسكنا ليس من الموت، فالموت ينتظرنا {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، بل من فقد أزلي استدار حول فجيعتنا فيه - رحمه الله.
وفي أوار أحزاننا نثمِّن لكل من واسنا وأنعش قلوبنا المكلومة، وندعو الله لأولئك الواصلين إلينا والمتصلين بنا بجزيل الأجر والثواب ونخص والدنا خادمَ الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز اللذين كان لتعزيتهما أثر بالغ في نفوسنا.
رحم الله روحاً لا تعوَّض وأسكنها الجنان {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء 69).
بوح الفقد،،،
الكون يسألُ عن كرام غادروا
زهو الحياة أجبْتُهُ ذاك أبي
وعن الفضائل ريِّها وروائِها
غَرِقَتْ؛ وكم أرسى مراكبَها أبي
وتذكّر الروادُ باباً مانحاً
قد فارقوه فذاك بابك يا أبي
وتذاكروا أيامَ برٍّ باذخ
في العيد والأفراح من فعل أبي
فتحدثوا وتسامروا بمحامد
قَصُرَتْ ولم يصمد لها إلا أبي
هو حاتم العصر الذي إن دوّنوا
قصص السخاء فرمزها العالي أبي
رجل إذا عُدّ الرجال تقافزتْ
كل الحروف باسمك الوافي أبي!
متهلّل حيثُ السماحة والندى
والثغر يشهد والجبين أيا أبي!
كم كان يلقاني بروح محفّزٍ
ويُصيخُ سمعاً لانطلاقاتي أبي
فيكيل لي أوزان عُجْبٍ باذخ
مستشرفاً كل المآثر يا أبي
ويُحدّثُ الأصحاب عني راضيا
فلكم سمتْ ذاتي بفخرك يا أبي
فنسجتُ للدنيا حكاية شامخ
ونقشتُها تبْرا فمن مثلُ أبي؟
دارتْ كؤوس الموت في أفيائنا
فتزلزلتْ تبكي فراقك يا أبي
دقتْ معاوله الأليمة قمةً
فتناثرتْ ثكلى خصالك يا أبي
لما غشاه الموت غابت شمسه
فاستوحشتْ كل المباهج يا أبي
ودّعْتُ لما ودعتْكَ يدي فما
يبقى من الآمال بعدك يا أبي