د. حمزة السالم
تؤرخ الحرب العالمية الثانية، باجتياح هتلر لبولندا، سبتمبر 1939م. آنذاك، كانت جاهزية الولايات المتحدة للحرب معدومة. فقد كانت تحتل المرتبة الثامنة عشرة في عدد أفراد الجيش، -بأقل من 174 ألف رجل-، أي دون عدد الجيش الروماني آنذاك. وليس هذا فقط، فقد كان حال تكتيكات القادة، كحال استعدادات الوحدات للحرب، كحال لباس الجيش وسلاحه، كلها من مخلفات الحرب العالمية الأولى. فبنادقهم، صُممت عام 1903م، أي قبل أربعة عقود من حاضرهم تقريبًا. وكانت خيل سلاح الفرسان من أركان قيام تنقلات الجيش، وضمن تكتيكاته. فماذا فعل روزفلت ليستعد للحرب الأوربية، التي كان روزفلت يؤمن بأن أمريكا ستخوضها بلا محالة.
فبدأ روزفلت، أولاً، في اختيار القائد الكفؤ. فعين الجنرال «جورج سي مارشال» كقائد أعلى للقوات المسلحة. وكان جورج سي فظًا للغاية، إلى حد أنه اختلف بشدة مع الرئيس روزفلت، حتى اعتقد زملاؤه الجنرالات أن مسيرته المهنية قد انتهت. فلما جاءت الكريهة واستُنزل النصر، إذا بهم يفاجئون بروزفلت يتجاوز 34 جنرالاً أعلى رتبة من جورج مارشال، ليُعطي الراية للجنرال الفظ.
وهذه لمحة، توحي لمزية الاعتداد الكامل بالذات، التي تميز بها روزفلت. فالثقة بالنفس وعدم الشعور بالنقص أمام غيرها، هي التي ضمنت لروزفلت، وجود أقوى الرجال عقلاً وإرادة حوله.
فلم يكن روزفلت من الرجال الذين يُتجرأ عليهم، فلا يتجرأ عليه إلا صاحب منطق في الطرح وذو حجة في المعارضة وعنده قوة في القلب وجرأة في النفس. ومما قيل في هذا «أنه عندما مات لوي هاو -مستشاره الخاص وساعده الأيمن وحامله لسدة الرئاسة ومهندس انتخاباته- ما عاد هناك من أحد من مستشاريه، يستطيع أن يقول لروزفلت -إذا ما طاش قراره-: «أنت أحمق مغفل».
وثم أحسن اختياراته للحلفاء، فتوسم في تشرشل قبل الحرب كما توسم في الملك عبد العزيز، بعد الحرب. فقد ابتدأ روزفلت التواصل مع تشرشل، حين أرسل له رسالة سرية يحثه على التواصل، مكررًا لعبارة «كن على تواصل مباشر معي» وذلك عندما كان تشرشل قائدًا للبحرية آنذاك، ولم يكن قريبًا من رئاسة الوزراء. ولم يحدث قط، أن راسل رئيس الدولة وزيرًا أو قائدًا في دولة أخرى أجنبية، إلا أن روزفلت قد توسم في تشرشل نجابة ستوصله لمنصب رئيس الحكومة إذا جد جدهم وافتقدت البلادُ البدرَ، في ليلة حالك ظلامها. وبعد الحرب، اختار مقابلة الملك عبد العزيز بن سعود، متوسمًا في أهليته لإقامة الدولة السعودية، وإيمانه بأهمية المملكة العربية السعودية، في منع التمدد الشيوعي، الذي كان قد شمل الشرق الأوسط كله تقريبًا.
واختار روزفلت حلف ببريطانيا، رغم أن حتمية استسلامها للألمان، أكده القادة العسكريون ورئيس الأركان، وكذلك أكده بشكل قاطع، السفير الأمريكي لدى بريطانيا، جوزيف كنيدي. فجازف روزفلت بإمداد بريطانيا بكل ما تحتاجه للحرب، متجاوزًا بذلك اعتراضات الكونجرس، ومخاطرًا بقيام الكونجرس بإعفائه من المنصب الرئاسي، الذي كان حتميًا في حال استسلام بريطانيا.
ومن اختيارات روزفلت للمعارك، اختياره لرأي البريطانيين، في أن تبدأ الحملة على ألمانيا من شمال أفريقيا. وقد تفاجأ الشعب الأمريكي، حين علم بإنزال القوات الأمريكية في شمال أفريقيا بدلاً من أوربا أو اليابان، وأغضب كل القادة العسكريين، الذين رأوا أن يبدأ الهجوم على المحيط الهادي أولاً. وهذا الذي رفضه روزفلت بشدة، وقال هذا الذي تريده ألمانيا، وهذا الذي سيجلب لنا الهزيمة واختيار روزفلت هذا، أعتقد أنه كان نابعًا من إدراكه لحال الجيش الأمريكي، الذي كان هزيلاً متأخرًا لم يتعد في استراتيجياته وأسلحته الحرب العالمية الأولى، وكان جنوده من المدنيين الذين سُحِبوا للتجنيد الإجباري. وقد صدق ظن روزفلت، فبالرغم من اتحاد جيوش الحلفاء مع قلة القوات الألمانية في شمال أفريقيا، وخلوها من النخبة القتالية -والتي كانت تهاجم في عدة جبهات أوربية-. وبالرغم من اتساع ساحة المعارك الصحراوية، إلا أن اعتقاد روزفلت بعدم خبرة الجيش الأمريكي، أثبت مصداقية عالية. فبالرغم من سلاسة الإنزال، إلا أن الحلفاء احتاجوا لسبعة أشهر دموية لطرد الألمان من شمال أفريقيا. فقد أثبتت الحملة أن الجيش الأمريكي لم يكن مؤهلاً لخوض حرب شرسة في أوربا، كما أدرك كل من شارك في تلك الحملة على شمال أفريقيا، أن أداء الجيش الأمريكي لم يكن إلا مجرد مهزلة تدريبية. وكم من الدروس والعبر والفوائد في دراسة الأمم من حولنا، وللحديث بقية.