د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ومع وجود «النكتة» في حياتنا اليومية في مستوياتها المختلفة فإنها لا تصنف في الآداب، فضلاً أن تعد في الأدب الرفيع، فلا يعد من يصنعها من الأدباء، ولا من ينقلها من الرواة المعتبرين، الذين تفسح لهم المجالس، ويعدون في العلماء، أو تكتب عنها الكتب، وتتبع طرائقها في التأليف، فتبنى عليها النظريات.
ومع أن فعل «الإضحاك» يدخل ضمن الفنون القولية والأدائية كما يسمى بالمسرح ب»الكوميديا» أو ما سماه المترجمون المعاصرون ب»الملهاة»، وهي التي يكون الغرض من إنشائها التسلية وبث السرور على «النظارة»، فإنها من الآداب التي تلقى عناية لدى الدارسين والمشاهدين.
إلا أن اندراجها تحت هذا الغرض من الفعل الإنساني –إن صح التعبير- جعلها في مرتبة أدنى من الأنواع الأخرى التي تطرح موضوعات جادة تبعث في النفوس الحماسة أو الحزن، أو الشوق والحنين.
ولا يبدو أن المستفيدين من هذا النوع من الفن هم سبب هذه المرتبة الدنيا، فالأطفال ومن في حكمهم لا يحتكرون الإعجاب بها، بل إن الخلفاء ومن في حكمهم ممن هم في الطبقة الأولى من المجتمع لا يستغنون عنها، وكثير من مجالس المنادمة، والأنس تعتمد عليها، وعلى أصحابها.
وربما يكون موضوعها الهزلي غير الجاد جعلها تكتسب منه نصيباً، فتؤخذ هي أيضاً مأخذاً غير جاد، ولا يلقى من ينتجها أو يعنى بها بالاً لدى الناس، بوصفه ينشغل بالضحك والتسلية عن معالي الأمور، وبوصف الهزل والمرح هو طابعه، فكأنه لا يرجى منه نفع أو خير، وكأن «الهزل» الذي تنتجه، والحالة التي يعيشها من يشهد مجالسها هي حقيقة الشخص الذي «يهزل» في تلك الساعة، لا يكاد يخرج عنها.
يؤكد هذا الحال الذي تصير إليه هذه الطرف عند المتلقين حين تنجرف عن الإضحاك الصرف، وتتحمل معنى آخر مبطناً كأن يكون سياسياً، أو اجتماعياً، فتحيل إلى عالم آخر خارج عالم الإضحاك الضيق، أو الموقف المحدود الذي يجمع المتكلم والسامع، وتكون هذه الدلالة الثالثة سبباً في ربط الموقف الحالي بسياق جديد تستدعي فيه موقفاً اجتماعياً أو تصنع فيه موقفاً اجتماعياً. وهذا يجعل فعل الإضحاك يخرج عن الإضحاك ليندرج في فعل آخر، ويحيله من الهزل إلى الجد الصرف، وهو ما يسميه الفرنسيون ب»الكوميديا السوداء»، ويجعل الذي يتعاطى هذا النوع من القول موضعاً للاهتمام والعناية من قبل الدوائر الاجتماعية والسياسية بوصفه عنصراً مهماً وليس هازلاً، وينتج رسالة تتماس مع القضايا الكبرى في المجتمع.
لكن السؤال يظل مفتوحاً لماذا يقع «الإضحاك» هذا الموقع المتدني من الثقافة الإنسانية، بالرغم أن فضاء الآداب الذي تتحرك فيه هو العواطف، وسواء كانت العواطف حباً أو حزناً أو إعجاباً فإنها تستمد قيمتها ممن تدور حوله وتنطلق منه وهو الإنسان، وهذا ما يجعل التفريق بين الحالات أو الحاجات المختلفة للإنسان الواحد أمراً غير مقبول.
ونحن نقول: «الحاجات» لأن الإنسان يحتاج السرور، والبهجة والضحك والتسلية كما يحتاج غيرها من المشاعر الأخرى، ليخفف ما يجده من كبد العيش، وليستعيد نشاطه. وهذا بالذات هو ما اعتمد عليه القدماء في إيراد الطرائف من الأخبار، والملح في أثناء ما هم فيه من حديث جاد عن عويص العلم ومسائل النقد، ولذا نجدهم يوردون في مفتتح حديثهم ذاك ما جاء من الآثار في الترويح عن النفس وقيمته على نتاجها.
وحين نقول «حاجات»، فإننا نرتفع بقيمته من أن تكون رغبة شخصية، أو قضاء وقت فراغ لا يجد ما يملؤه به، لأن تصبح مثل الطعام والشراب، وسائر ما لا يقوم الإنسان إلا به، وهذا وعي كبير بقيمة هذا الفعل على توازن الإنسان النفسي والاجتماعي.
ما يدفع بسؤال آخر إلى الظهور عما يمكن أن أسميه بطبقية الثقافة، وأعني به تقسيم الثقافة بحسب النوع إلى ثقافة عليا، وثقافة دنيا، الثقافة العليا هي التي تعني بالمشاعر والحاجات العليا للنفس كالإعجاب بالنفس، أو بث مشاعر الحب والشوق، أو بيان رأي عقلي فلسفي في أمر ما، أو بيان صفات محبوبة بشخص أو مكان، أو الثار للنفس والكرامة، في حين أن الثقافة الدنيا هي التي تتناول حاجات لا تعبر عن نفس كبيرة أو عالية كالهزل، أو الضحك أو التسول والكدية أو السباب والشتم، وتعطي صورة سلبية عن المتلبس بتلك الحالة قوامها الضعف والموقف المتدني.
ولا يتصل هذا التصنيف بتقسيم «فرويد» للأنا المعروف؛ «أنا عليا» وهي حالة التسامي التي يحمل فيها الإنسان نفسه على ما يزينها كما يقول الشاعر القديم، وأنا أخرى دنيا «الهو» وتهتم بالغرائز وحالات ضعف الإنسان، لأنها وإن كانت تبدو متوافقة مع تلك الحالات إلا أنها لا تندرج جميعاً وفقها، فالبكاء والعويل الذي يظهر بالرثاء أو المأساة كما لدى أرسطو في الثقافة العليا بالرغم أن «الأنا» فيه بلغ غاية واضحة من الضعف، وكذلك أيضاً الاعتذار. في حين أن نصوص الكدية (المقامات على سبيل المثال) عدت من الثقافة العالية.
وهذا التقسيم الطبقي للثقافة يتجاوز التكوين البنائي اللغوي لنصوص هذه الثقافة، ومنحتها السيرورة بين الناس، كما يتجاوز أيضاً ما تحدثه من أثر بين الناس المتلقين، تنشر من خلالها قيماً أو مواقف معينة ليركز –ربما- على حالة التلقي أو الإرسال، وهذا ما يجعله تقسيم غير منطقي أو مقبول.