الثقافية - محمد هليل الرويلي:
وبعد عام من الرحلة الأدبية التي شرعنتها «المجلة الثقافية» لمحررها الأعرابي في صحائفها «السبتية». أقبل الأعرابي إلى الخليج العربي، بعد أن قطع على ظهر ناقته الصحاري الطوال القفار، قافلًا لأرض الخليج من جديد. بعد أن قضى وأمضى في أفريقية مطلع رحلته في عامها الثاني متنقلًا يجر رداءه، وفي «ثفاله» متاع شهي من «رفادة» الأكرمين في (المغرب، تونس، ليبيا)، قابل بأسفاره ومشاهداته من قابل من أدباء العرب وأديباتها. الكاسيات المثقلات بَداعة، نشَرنَ في صحافه ألقًا مما نشَرن وردنه وصببنه في الجفان المهاريق «مجاميع مطبوعة» أو في دواوين القوافي والأبيات المسموعة. أصيلات موشحات أنعم الله عليهن السبائك الموشاة، يسح نور المشحة بين أصابعهن، فتورق في أرض العروبة أرج ألف ألف زهرة غذّتها تبتلات حقول شفاههن المنداة، بصيرات فكر ورجيحات عقل. يا للجمال الأخّاذ.
ودعهم وقال: يا سيدات العرب الأبيات. ويا أسياد العروبة المتعرشين ظِلال أبيات قوافي القصيدة، المشرعة أقاصيصكم ورواياتكم وفنونكم الجميلة للعوالم الدهشة. أستودعكم الله يا دهشة لغة العروبة بشمال أفريقية. وجمّل الله حالكم وزادكم على تألقكم ألق الدوامة. أحسنتم لصاحبكم الأعرابي الوفادة والرفادة.
... وصلت فجر هذا السبت، يممت وجهي نحو البحر. هنا حين تشرق الشمس من الكويت، من وراء أشرعة الصيادين والمراكب المحملة، تجلل شعاع ضوئها برائحة أصوات البحّارة الرطبة وأناشيد الغوص. اليوم قصدت أن أكون هنا وأبدأ من هنا.. عند من أشارت لهم المصادر المسمارية لحضارات ما بين النهرين، بعض الكتابات الخاصة بوثائق تجارية تصف رحلات بحرية في الخليج العربي من المدن السومرية (أور ولارسا ولجشش وتيبور) أسفل الخليج العربي تكرر ذكر: مملكة دلمون وماكان (ماجان) وملوخة (السند)، يوم أن كانت حضارة (دلمون)، تشمل (فيلكا) والبحرين، وساحل شرق الجزيرة العربية. دعوني هنا لأسمع الشعر عند الكويتيين، عند من طوعوا الصحراء القفر، واستجابت لهم الطبيعة بعد أن كانت منعة عصية شحيحة لا تكاد تصنع شيًا أو تعطي شيئًا أو تمد يدها حتى إلى الحياة. لكنها استجابت للكويتيين وتحولت القفر للانفتاح بوجه القوافل، كذلك تضافر معها البحر مد يديه للسفن مصافحًا الأشرعة..
الشعر في الكويت خطوة متقدمة
كشف أستاذ النقد والأدب الأديب الكويتي الدكتور سليمان الشطي في استهلالة ملف رقيم ودهاق الكويت الذي خصصنا مساحته الكاملة، حول التجربة الشعرية في الكويت لما نالته من ريادة في الخليج، ولموع مشهدها: إن هذا التعانق الجميل، بين الجمالي والوظيفي سمة واضحة عرفها الشعر في الكويت منذ نشأته، ففيه استجابة لطبيعة المجتمع الذي أخذ شكله المتكامل في مطالع القرن السابع عشر، مجتمع آثر الاستقرار في بيئة تفتقر إلى مقومات الحياة، ولكنها توفر الأمن وتفتح مجال الاتصال بسواها فكون مجتمعا تجاريا مستوعبا لإمكانيات العمل في البر قوافل والبحر سفنا متميزا بالانفتاح.
وأقدم ملمح لهذا التلازم بين النشاط الفني والموقف الاجتماعي نلمسه في عصر متقدم؛ ففي القرنين 18 و 19 كان أقدم شعرائه عثمان بن سند ( 1766 – 1826 ) يتخذ موقفا وأفكارا متعانقة تراثيا مع شاعر متفتح مثل المعري لتتفتح عناصر الإبداع خارج حدود حلقات أصحاب العلم اللغوي والفقهي. ويأتي بعده عبد الله الفرج ( 1836 – 1901 ) فاتحا آفاق الموسيقى والشعر فيكتب ويلحن الأغنية والقصيدة الشعبية والعربية، عاش متجولا مختارا لمنجزات العصر، وفي مقدمتها الصحف.
أما في الربع الأول من القرن العشرين بدأت حركة الانطلاق، ستجد صدى لها عند شاعر نابه، صقر الشبيب الذي كان رأس حربة مسنونة في الدفاع عن أفكار الانفتاح في حقبة العشرينات التي انبثقت فيها بقوة دعوات النهضة التي تبنت كل جديد:
وخلوا في الديانات افتراقا
يؤول بكم إلى الحرب العوان
ودينوا من تكاتفكم بديـــن
لكــم يلقى التقــدم بالعنـان
ودعا إلى إنقاذ المرأة من ذلك الفكر الذي حبسها دهرا في قمقم التخلف.
وتتواصل حركة رياح التغيير والتصدي، فيدلي حجي بن آل حجي بنصائحه الثمينة التي يخاطب بها بؤر التخلف:
نحن الشباب ريـاح
وانتم كالهبـــاء
وقال «الشطي»: كما تجلى الوعي والإحساس المبكر بالأخطار التي كانت تحيط بالأمة، لذا نجد شاعرا مثل خالد الفرج يسجل اسمه واحدا من أوائل الشعراء الذين نبهوا إلى خطر الاستيطان الصهيوني عام 1928م. ويقفز فهد العسكر إلى الأمام بقوة وثبات، فيتجاوز لغة الشعراء الفقهاء المنتمين إلى رصانة مهنة التعليم وتحفظها ليعبِّر عن حالة التوثب انعكاسا لتوتر النفس الذي كان صدى لتوتر البعدين السياسي والاجتماعي، شاعر ساخط، رفض التزمت واختار المواجهة فكان لا بد من أن يدفع الثمن نبذا من الناس واعتزالا ووحشية من جانبه. واستجاب لشعر تلك الحقبة الذي كان عاطفيا ينحو نحو الذاتية وتبرز الفردية والاغتراب في مواجهة تحفظ المجتمع. وتجلت «أنا» الشاعر حاضرة غير محتجبة أو متوارية وراء أي تقليد شعري.
بعض الشعراء جسدو مواقفهم تجاه حقوق الفتيات في التعليم والباعة
ويقف عبد الله سنان محمد إلى جانب التوعية والخطاب المباشر ويظهر تفاعله مع نماذج بشرية تعاني، مثل الأعمي والمهري=البائع الجوال، وحق الفتاة في التعلم، والصياد البحري ومعاناته من جشع بعض التجار وشراسة الظروف المناخية، ودعا بوضوح إلى الثورة على هذا الواقع:
صاح قم وانفض الغطاء فإن الفجر لاحت خيوطه الذهبيـة
مضيفًا: ولأن المرحلة مرحلة حراك قومي ووطني نلمس استجابة الشعر وريادته، فيرى أحمد السقاف كل شيء مشرقا جميلا مبشرا بالمستقبل مهما كان الواقع مظلما، فجمال الأوطان هو الأكثر بروزا:
يا بلادي أنت السناء من الكـون
وأنت الجمال يسبي ويسحر
ولما كانت دعوة القومية الملمح الحاضر في شعر المرحلة، يكتب بعضهم مباشرا محمسا، ويتفنن الآخر في عرضه، اعتمد محمد المشاري في قصيدته «البائسة» أسلوب الحكاية الرمزية. كما كان أحمد العدواني واحدا من الذين شهدوا النقلة الكبرى التي مر بها مجتمعه وأمته، وكان واحدا من المؤثرين الذي تركوا بصمة بينة ثقافيا وفنيا؛ أثرى الحياة الثقافية بمشروعاته كما قدم نقلة متميزة في حركة الشعر في الكويت، وكان قلقا متحركا مواكبا منجزا، يصدق عليه قوله:
همي الذي زرعته في الغابة العذراء
صار عيونا وطيورا وشجــر
وصار لي في الغابة العـذراء
مئذنة تكبر الحياة فيهـــا
وتعشق الصلاة في ضلالهـا السماء
وزاد: كما أن هذه الثورة الاجتماعية تلتقي مع الدخول في مغامرة التجديد التي دخلها علي السبتي مبكرا في قصيدته «رباب» التي قارب فيها قصيدة التفعيلة مؤذنا بانفتاح سينطلق بعد ذلك ليشهد تجارب كثيرة ستتبلور في الستينات لتلامس أحدث ما وصلت إليه القصيدة العربية. ووسط هذا التوثب في منتصف الستينات يلقي محمد الفايز بعمله المتميز «مذكرات بحار» عمل ذو نفس ملحمي، ممتد في عشرين مذكرة تَتَبع فيها حياة شخصية نموذجية مكتملة شروط النمذجه، فالبحار هو الشخصية الرئيسية في بيئة الخليج، فجاء هذا العمل الطويل المتميز ليخرج من إطار استخدام الرموز والشخصيات العالمية والأساطير إلى اللجوء إلى شخصية محلية شعبية:
الشمس في عينية ماتت مثلما مات العبير
والنور في بيت خلا لولا حصير
وفتيل مسرجة كأهداب الضرير
ويتواصل مع قضايا الإنسان وطبقات المجتمع الفقيرة، وحقوقهم المشتركة مع البقية:
والشمس ما ضاءت ليشرب نورها
قبــر ويسـكن شرقهـا حفـار
الشمس للبحــار حيث شراعـه
وحبالـه والبحـر والمحـــار
الشمس للبــدوي حيث جمالـه
وحداؤه في البيــد والأشعــار
الشمس للخبــاز حيث عجينـه
وغناؤه ورغيفـــه الـــدوار
حاله على ألسنة الكويتيين (كأنه قطرات من فم لفم)
وبعد تحسس خالد الزيد الهموم الوطنية والاجتماعية والقومية، يندفع في تجربته إلى رحاب الروحية وتجلياتها الصوفية ومبدؤها المركزي القائم على التسامح واتساع مساحة الحب وقبول عقيدة الآخر فتتلاقى وقفة موسى الخالدة مع تجربة الحلاج، في لغة الصوفية تتجاوز الدلالات القريبة إلى مجاهل الرؤى العميقة:
يحدثون حديثا لم يزل عطــرا
كأنــه قطرات مـن فـم لفــم
وقال: كما تبرز بوضوح أهمية تجاور وتكامل الأصوات عند خليفة الوقيان الذي يقف مدافعا عن الحرية قولا وفعلا، متصادما مع معوقات تقدم الأمة والوطن والمناهضين لحركة التقدم. في قصيدة «القضية» تبرز تلك الوجوه التي فقدت نبض الحياة الذي يتجسد في المعتقد الحي. وينعى كذلك «الزمن الردئ» المسف الذي تنقلب فيه المقاييس وتتعاكس الأدوار، وترتدي الأقنعة، وتتبدل الجلود، زمن ترابي، نحاسي، خلاسي، وكلها تسميات توحي بالتخاذل والفجاجة والغلظة واختلاط المعادن والألوان زمان يسجل فيه الشاعر امتعاضه من التغاضي والتجاهل للقضايا المصيرية، والانشغال بالسفاسف وتوافه الأمور ويقف وقفة ضد الإرهاب الذي هو ابن فكر الغلو والانغلاق:
المجد للظلام
للصوص السارقين من فم الرضيع
لثغة الكلام
الغاصبين من جفون أمه
شهية المنام
وبين «الشطي» إن حضور شعر المرأة في هذا السياق الناظر للمستقبل يبرز حضور صورتها بدقة جمالية ذلك الصراع التاريخي:
فرق كبير بيننا ، يا سيدي
فأنا محافظة .. وأنت جسور
وأنا مقيدة .. وأنت تطير
وتبرز بوضوح عند غنيمة زيد الحرب نغمة الإحساس بإيجابية التعامل مع الحياة
في صدرك عصفور أبيض
في كفك ... قنديل أبيض
في ثغرك أسراب حمــام
تتأهـب للزمن الأبيــض
بينما تخرج نجمة إدريس من حيز الذات إلى إقامة التفاعل بين إحساس الأنثى اللماح وهاجس التأمل العقلي المتميز:
ما زلنا - في زمن المريخ - ندب كدود الطين
تأبى قامتنا
أن تشهد فجر الإنسان الأجمل
ولأنه لكل عصر لغته الجمالية وفي عصر الانفتاح المتسع والمباشر على العالم يتطلب تجارب تنسجم مع واقعها لذا تجاوز صلاح دبشة الشكل الموسيقي ويقيم علاقة الغرابة باعتبارها ركيزة للعالم من حوله، ينغرس في التفاصيل الدقيقة فيحول الأشياء العادية غير عادية ومدهشة، ومضة تشاكل أسلوب الحكمة في التجربة القديمة، تجسد المعنوي وتنطق المادي كما نرى في قوله:
كلما حاولت أن المس الوهم
تضحك يدي
وهو مغرم بمثل هذه المفارقات التي تجعل القارئ يرفع حاجب الدهشة:
ركضت في خيالي
فصدمت نفســي
واختتم «الشطي»: كما يحضر النص القرآني تأتي حياة الصحراء وبداوتها؛ فعند سعدية مفرح حس البداوة، تتشبع لغتها بمفرداتها: القهوة، الذلول، تنوخ، صياغة تنسج معنى نفسيا من خلال أجزاء مادية، هي مكونات الخيمة:
فأشد «رواق» الأذن
أرخي حبل القلب
أكسر أعمدة البيت
بينما تتجه ومضات نشمي مهنا الشعرية نحو رؤية عامة:
يشدني وجهها الوضاء
قوامها الممشوق
لكني أتأمل أكثر .. أصابعها
o الحركة الشعرية وتطورها في الكويت
لا يستطيع الباحث في أي ظاهرة أدبية كالشعر أو غيره من الظواهر الأدبية، أن يغفلَ عاملَ التاريخ كخلفية مهمة للرصد والتوثيق. ويمكن القول إن بوادرَ الحركة الشعرية في الكويت بدأت منذ قرن ونصف تقريباً، في بقعة من الأرض لم تظهرْ ككيان سياسي إلا منذ حوالي قرنين ونصف، حين تولى أولُ حاكم للبلاد من أسرة آل الصباح مقاليدَ الحكم عام 1752م . هذا ما أبانته الدكتورة نجمة إدريس مؤكدة في الوقت نفسه أن الدراسات الراصدة لتطور الشعر في الكويت تذهب إلى أن بوادرَ تلك الحركة بدأت بطور تقليدي نمطي يحاول محاكاة النماذج التراثية في أغراضها وخاصة المديح والشعر الديني، وإن كان يكبو في معظم نماذجه في شراك التقعر والوعورة الأسلوبية والصنعة المفتعلة. وهذه المرحلة يمثلها عبدالجليل الطبطبائي وتلاميذه. تلا هذه المرحلة شعرٌ خرج من طور التقليد المحض للأغراض التراثية نحو التفاعل مع اهتمامات المجتمع ومشكلاته، وهذا ما نجده في شعر خالد العدساني. بل لعل مسألة التفاعل مع الهمّ الاجتماعي اتضحت أيضاً في النزوع نحو تمثل لغة الواقع الحياتي ولهجته المحلية، جنباً إلى جنب مع اللغة الفصحى كما عند عبدالله الفرج.
لوازم رفد الشعر الكويتي
أما الطور الثالث الذي بدأ مطالع القرن العشرين، فقد تميز عن سابقيه بتواكب المشاريع الثقافية مع الشعر. ولعل ازدهارَ المؤسسات الثقافية وانفتاح المجتمع على آفاق التعليم والصحافة والفكر التنويري والوعي السياسي، تأتي كلها لوازم مهمة في رفد الشعر بدماء التجدد ومسايرة حياة أكثر تطوراً واستجابة لطموحات الإنسان وآماله. إن أحداثاً ثقافية مهمة مثل: افتتاح أول مدرسة نظامية وهي المباركية (1911م)، وإنشاء المكتبة الأهلية (1923م)، وتأسيس النادي الأدبي (1924م)، وإرسال أول بعثة طلابية إلى العراق (1925م)، وصدور أول مجلة وهي مجلة الكويت (1928م)، لا شك كانت علامات مميزة في مسيرة مجتمع صغير يسعى نحو الانفتاح واللحاق بركب الحياة المتطورة. ناهيك عن تزامن هذه المشاريع الثقافية مع أحداث سياسية لا تقل أهمية، تؤرخ لحياة ديمقراطية مبكرة مثل قيام المجلس الاستشاري (1921م) والمجلس التشريعي (1938م).
جيل النصف الأول من القرن العشرين
وقالت الدكتورة نجمة إدريس: مثل هذا الحراك الثقافي والسياسي كان يمهد الأرض ولا شك لبزوغ جيل من الشعراء كان أكثر تمثيلاً لحياة مجتمعه الراهنة، كخالد الفرج وصقر الشبيب وفهد العسكر ويبدو أن متغيرات تلك المرحلة بحراكها الاجتماعي والفكري، وتأرجحها بين الانفتاح والتقليدية، كانت هي موضوع الشعر وروحه وعصبه لدى الشعراء الثلاثة المذكورين أعلاه. ولعل التمثيل بسيرة حياة صقر الشبيب وفهد العسكر يعطي ملمحاً واضحاً لنمط التوتر والصدام بين فئة انفتحت على المعرفة وبادرت نحو تجاوز المألوف والتقليدي وهم فئة الشعراء والمستنيرين، وبين واقع اجتماعي كان ما يزال يتلكأ حينذاك في قبول ما يهب عليه من رياح المتغيرات.
ومن هنا يبدأ السجال والجدل حول مستجدات المرحلة، كحداثة التعليم ووفود الصحافة وأدوات العصر وأنماط التمدن. ويبدو أن انحياز الشعراء لسنة التطور إزاء تيار المحافظة والتشدد، جعلهم على خط المواجهة والصدام، وأشعرهم بالانبتات والاغتراب، ومن ثم نزوعهم لتبني موقف المعارضة والرفض لواقع لا يرقى إلى طموحهم. وهذا الموقف الرافض قد يتخذ سمة القلق والشكوى، وينتهي بالعزلة التامة والانكفاء على الذات، كما في حالة صقر الشبيب، الذي يقول:
فيا ليت شعري ما يريدون بالذي
يذيعون من كفري المزوَّرِ أو لبسي ؟!
فيا قومُ ما هذا التغطرسُ والجفا
ودينُكم ديني وجنسُكم جنسي ؟!
وأضافت: أو قد يتخذ الرفض للواقع منهجَ الفلسفة الحياتية والسلوكية (الجانحة)، المسفّهة للأعراف والتقاليد، المندفعة في شذوذها وتطرفها كما في حالة فهد العسكر. ويبدو أن فهد العسكر وجد في «موتيفات شعرية» مثل (الخمر) و(الغزل الجريء) و(اللغة المكشوفة) و(الهجاء) المبطن بالسخرية والتهكم، أدوات جامحة وفعالة للتنفيس عن الغضب المتنامي والشعور بالنبذ والعزلة القسرية:
هاتِ بنتَ النخل يا ابن العسكرِ
لا يُطاقُ الصحوُ في ذا البلدِ
ويبدو أن إدمانه على تأمل الأحزان والخيبات، واختياره للعزلة، واستيحاشه من سوء الفهم والتقدير، عمّق في نفسه عقدة الظلم والاضطهاد، فاستلذ العذاب والشكاة، واستسلم للمرض والعجز، وهادن الموت، وأسدل الستار دون أي بصيص من فهم أو أمل. وهذا ما يفسر لنا مرضه بالتدرن الرئوي، وإهماله لعينيه حتى العمى، وتوجسه من الزائرين لعزلته في غرفته الحقيرة، ثم أخيراً استسلامه المَرَضي لموت بائس في غير أوانه !
يقول في أحد نصوصه الشاكية :
وطني وما ساءت بغير بنيك يا وطني ظنوني
رقصوا على نوحي وإعوالي وأطربهم أنيني
وتحاملوا ظلماً وعدواناً عليّ وأرهقوني
هذا رماني بالشذوذ وذا رماني بالجنون
وهناك من رماني بالخلاعة والمجون
وتطاول المتعصبون وما كفرتُ وكفروني
فعرفتُ ذنبي إن كبشي ليس بالكبش السمينِ
يا قومُ كفّوا دينُكم لكمُ ولي يا قومُ ديني
أما لغته السهلة الممتنعة، ومفرداته الرقيقة المفعمة بالعذوبة والشجن، فلعلها شارته الفارقة في التجديد الذي حاز قصب السبق فيه، في بيئة شعرية كانت ما تزال مرتهنة لرصانة القصيدة التقليدية ولغتها وخطابها. فجاء فهد العسكر بهذه اللغة الرومانسية الجديدة لينفح المشهد الشعري محلياً بنفحة من طراوة وعنفوان، وليعيد للإنسان نبضه وصدقه.
جيل النصف الثاني من القرن العشرين
وتابعت: ثم بدأ النصف الثاني من القرن العشرين بولوج المجتمع في الكويت نحو عصر المتغيرات المادية والفكرية، وذلك بعد ظهور النفط وما أتت به عائداته من ثروة وطنية ونهضةٍ عمرانية وتنمية بشرية. فبدأ شعراء هذا العهد يفتحون أعينهم على سمات عصر جديد مليء بالتحديات والصخب والتسارع. فالمدنية الجديدة والوفرة المالية أوجدت واقعاً يضجّ بالمتناقضات واللهاث وراء المال والتنافس غير النزيه. واقع قد يعلو فيه الوصولي والمدّعي والانتهازي، وتجفّ فيه ينابيع الفطرة النقية والبراءة ونبض الإنسان. ولعل أحمد مشاري العدواني خير من يمثل هذا الجيل المثقل بتطلعات وآمال سرعان ما يجهضها واقع مفتقر إلى المثالية المتمناة والأحلام الباسقة. وإزاء هذا الواقع المعاند المستعصي على الطموح والحلم، لا يملك أحمد العدواني إلا أن يواجهه بفلسفته التهكمية الساخرة المنطوية على المرارة الممضة والإشارة اللاذعة، وإلا بالانكفاء على اغتراب روحي أقرب إلى عزلة الزاهدين والمستوحشين. ومن موقعه هذا يبدأ بالمراوحة بين اللجوء إلى منفاه النفسي والروحي، أو الاستمرار في مناوشة قضايا وإشكالات مجتمعه الراهنة. يقول:
ويحي ! إلى متى أصارعُ الأيامْ
عمري يضيعُ كلّ لحظةٍ
بين متاهةِ الأوهامْ
أبني وتهدمُ الظروفُ ما أشيد
من قصورْ
بنيتها من أعظمي ولحمي !
أبني وتسرقُ اللصوصُ ما بنيتْ
وتمسحُ الرياحُ اسمي !
ثم يأتي خليفة الوقيان امتداداً طبيعياً لجيل أحم العدواني، وذلك لوجود قواسم مشتركة بين شعراء هذا الجيل الذي ينضوي تحته أيضاً علي السبتي وخالد الزيد ومحمد الفايز وعبدالله العتيبي ويعقوب السبيعي ووقوفنا عند «الوقيان» خاصة قد تحكمه المساحة المتاحة في هذا المقام، ولأنه أيضاً يليق به أن ينوب عن شعراء جيله، وذلك لاتساع دائرة شعره وتلونها بين الهمّ الاجتماعي والسياسي، والهمّ العربي القومي، ناهيك عن اشتغاله بقضايا الحريات ومعاناة الإنسان.
من نص شهير له بعنوان (المبحرون مع الرياح) يقول:
يا مبحرون وفي محاجركم
نهران من نبع الهوى شُقا
إني لألمحكم وإن عبثاً
طال السُرى بمتاهة غرقى
ولعل في تجربة خليفة الوقيان الشعرية ما يصلح أن يكون نموذجاً مثالياً لتطور الشعر الكويتي في تقنياته وأدواته الفنية. فقد بدأ الشاعر مسيرته بكتابة القصيدة العمودية، ثم ولج بمرونة ومقدرة نحو آفاق (قصيدة التفعيلة)، بعد أن رسّخ هذا الشكل الجديد من الكتابة الشعرية قدمه عربياً منذ مطالع عقد الخمسينات من القرن المنصرم. ولم تقف تجديدات الوقيان عند الشكل وإنما تعدت ذلك إلى آفاق تقنيات فنية أخرى، كتوظيف (القناع) و(الرمز) والشخصيات التاريخية والدينية، والامتياح من التراث. ناهيك عن الاستفادة من تقنيات القصة والمسرحية كالصراع والشخصيات و»الديالوج والمونولوج» وتوظيفها في شعره.
هذا الاشتغال المتأني على الأدوات الحديثة ساهم في تطوير اللغة الشعرية لدى الوقيان وشحنها بالفكر والوعي وحدة العاطفة وخصوبة الخيال. وأعتقد بأن لغة الشاعر بتلك المواصفات كانت قادرة على مواكبة المشهد الشعري الحديث، واستيعاب متغيرات المرحلة ومسايرة ذوق العصر وطروحاته الفنية.
أجيال تتوالى .. سعاد وغنيمة ونجمة
وعن الشعر الكويتي في مرحلة الثمانينات وما تلاها. وبزوغ شمس الأسماء النسائية قالت «إدريس»: ما أن نأتي إلى عقد الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين حتى يبزغ في الأفق صوت المرأة الشاعرة، مؤكداً على وجوده وحيويته، بل وتطلعاته إلى التجديد والمعاصرة. إن شاعرات مثل سعاد الصباح وغنيمة زيد الحرب، وكاتبة هذه السطور نجمة إدريس، وجنة القريني. ساهمن ولا شك في تكملة المشهد الشعري في الكويت، ليبدو أكثر مواكبة لواقع التطور الاجتماعي والثقافي في هذه المرحلة المتأخرة. ويستطيع المتأمل في الشعر النسوي أن يستدل بسهولة على مدى استيعاب أولئك الشواعر ليس للمنجز الشعري المحلي السابق عليهن فقط، وإنما أيضاً للمشهد الشعري العربي عامة وما حققه من قفزات تجديدية في الشكل والأدوات الفنية.
واختتمت الدكتورة نجمة إدريس مشيرة أنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان: إن الاستمرار في التجريب عبر (قصيدة التفعيلة) ومن ثم (قصيدة النثر) وأخيراً (قصيدة الومضة) في الكويت كان من نصيب الشعر النسوي بلا شك. ومن هنا جاء الاشتغال على (لغة جديدة) معبرة عن روح العصر، لغة تراوحت بين البساطة والمباشرة حيناً، والمراوغة والإغواء حيناً آخر، مع التعويل على الإيحاء والإيماء، والتعلّق بالأخيلة المتأبيّة والتعابير المكثفة.
وتبقى الأجيال تتوالى، فتلك سنة الحياة وسنة الشعر. وتبرز الأسماء الجديرة بالالتفات، إبراهيم الخالدي، صلاح دبشة، محمد المغربي، سامي القريني وآخرون. وإن كان في هذه الورقة فسحة للإفاضة فنتركها للتمثيل ببعض النماذج المتأخرة من الشعر النسوي ومجايليه من الأسماء الأخرى.