د. عبدالحق عزوزي
لا حديث اليوم في فرنسا إلا عن تحول جديد في سياسة باريس تجاه الجهاديين الفرنسيين الذين تورطوا في الحرب بسوريا، حيث ستسمح السلطات بإعادة أكثر من مائة منهم إلى الأراضي الفرنسية. والسبب في تغيير الإستراتيجية الأمنية المتبعة حتى الآن يكمن في أن الحكومة تشعر بقلق وتخوف متزايدين من أن يتم الإفراج عن السجناء الذين تحتجزهم القوات التي يقودها الأكراد، أو أن يفروا بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشهر الماضي عزمه سحب قواته من سوريا. وللذكر فإن المسؤولين الفرنسيين في أكثر من مناسبة كانوا يشددون على أنه يجب محاكمة المقاتلين وزوجاتهم وسجنهم في سوريا، اللهم فيما يتعلق بإعادة أطفال الجهاديين ووضعهم لدى أقاربهم في فرنسا.
ونتفهم بذلك ردات الفعل القوية من المعارضة الفرنسية وعلى رأسها زعيمة حزب «التجمع الوطني»، المحسوب على اليمين المتطرف، مارين لوبن، التي غردت على تويتر كاتبة: «هؤلاء جهاديون، ولذلك يجب أن لا يعتبروا فرنسيين بعد الآن». وفي جواب مباشر لهاته الانتقادات، قالت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان لها «نظرا للتطور في الوضع العسكري في شمال شرق سوريا، والقرارات الأمريكية، ولضمان أمن الفرنسيين، فإننا ندرس جميع الخيارات لتجنب فرار وانتشار هؤلاء الأشخاص الخطرين». وأكد البيان «إذا اتخذت القوات التي تحرس المقاتلين الفرنسيين قرارا بطردهم إلى فرنسا، فسيتم وضعهم فورا تحت تصرف القانون». وأوضحت الوزارة أن «الجهاديين، الذين انضم العديد منهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، سيواجهون أقسى الإجراءات القانونية». وأضافت «هؤلاء الأشخاص انضموا طوعا إلى منظمة إرهابية تقاتل في بلاد الشام، وشنت هجمات في فرنسا وتواصل تهديدنا».
وربط وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير في تصريح لقناة «بي إف إم» الإخبارية الثلاثاء، هذا القرار بالانسحاب الأمريكي من سوريا، وما سينتج عنه من إفراج عن الجهاديين ومن بينهم الفرنسيون. وطمأن كاستنير منتقدي هذ القرار، حيث أكد أن الجهاديين «إذا عادوا إلى فرنسا سيتم احتجازهم».
ويعتقد أن نحو 1700 مواطن فرنسي توجهوا إلى العراق وسوريا للقتال مع الجهاديين بين 2014 و2018، بحسب أرقام الحكومة. وتتحدث بعض الأرقام عن مقتل 300 من هؤلاء.
وبحلول أيلول/ سبتمبر 2018، عاد نحو 260 منهم إلى بلادهم طوعًا، وجرت محاكمة نحو 200 شخص، بحسب وزارة العدل.
المشكل الكبير الذي يخاف منه المعارضون هو أن هؤلاء الجهاديين ولو وضعوا في غيابات السجون فإنه لا تؤتمن نياتهم، خاصة وأن الأبحاث العلمية الجادة تشير إلى أن الوسط السجني يشكل حقلاً خصبًا لانتشار الإيديولوجيات المتطرفة والتأثير على كل مجرمي النظام العام، وهو ما يستلزم مجهودات لا متناهية لإقناع الملوثة عقولهم بالتخلي عن المفاهيم المغلوطة... وعلى وضع برنامج زمني لاستراتيجيات مواجهة الفكر المتزمت، وتقييم مخرجاتها ومخرجات الخطط التنموية بشكل دوري... فمسألة السجون قد تتحول في بعض المجتمعات بما فيها الأوروبية منها إلى جامعات إرهابية فعلية، حيث يلعب الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، بينما يكون باقي السجناء هم الطلاب. أما سلطات السجن فتلعب دور الحارس الغائب. ولا جرم أن هذا السيناريو يحير السلطات العمومية في البلدان أكثر من أي وقت مضى. ومن التساؤلات التي يثيرها المسؤولون: كيف يمكن التعامل بصرامة مع التطرف من دون خلق المزيد منه؟ من التحول نحو الراديكالية في صفوف العنصريين البيض داخل السجون الأميركية إلى محاولة المملكة المتحدة الكارثية لسجن أعضاء الجيش الجمهوري الآيرلندي، تبقى المشكلة كما هي: أن السجون معاقل للتطرف في انتظار شرارة واحدة للانفجار!
ومعنى هذا الكلام أن السجون بدورها لا تسلم من تأثير مراض الذهان والمتطرفين وأصحاب الغلو وأن وضع مراقبات دائمة لتحصين من سلموا من هاته المصيبة الآزفة مسألة مصيرية... وبمعنى آخر، فلا يكفي استئصال الإرهابيين والسفاكين الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي الدماء وقطع الرؤوس فحسب، بل لا بد من التأثير على عقول البشر حتى في السجون....
إن التطرف المولد للإرهاب بكل أشكاله يتولد في العقول ولا علاج له إلا من خلال الاستثمار الأمثل والذكي والصارم في العقول ويجب أن تشهد كل المجتمعات من الآن تمردًا وثورة ضد كل الأفكار الظلامية والعقول اللا حضارية وخلق عقل ناهض لقواعد ناهضة تبني وتشيد، انطلاقا من ضرورة استعمال العقل والحكمة في الحال والمآل، صونا للأرواح والمجتمعات.