د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما كان الوزير والأديب والشاعر الأندلسي ابن الخطيب في منفاه بالمغرب، اختار ضاحية جميلة من ضواحي مدينة سلا الواقعة على مصب نهر أبي رقراق، وهذا النهر الجميل أقيمت على ضفافه عدداً من المباني والمساجد في أزمنة سابقة وفي زماننا هذا، وظلت بعض الآثار خالدة حتى يومنا هذا.
ومن أجمل ما نقله لنا ابن الخطيب في كتابه نفاضة الجراب، أثناء مقامه في مدينة سلا، تعديده لمؤلفاته، ونقل بعض مراسلاته وشعره عندما كان هناك.
والحقيقة أن المرء يمر في حياته بمراحل تفرضها عليه بعض ظروف الزمن، ومن فرح وأسى، وهم وفرج، وهكذا هو الزمن يمر بأفراحه وأتراحه، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومن تلك الكتب التي ذكرها، كتاب رقم الحلل في نظم الدول، ومعيار الاختبار في أحوال المعاهد والديار، والحلل المرقومة في اللمع المنظومة، وغيرها الكثير.
مدينة سلا، أو مدينة مدائح المصطفى، اشتهرت بمدائح الرسول صلى الله عليه وسلم، أثناء الاحتفال بالموالد النبوية التي اعتاد الناس إحياءها منذ زمن بعيد جداً. وما زالت هذه المدينة من أشهر المدن في الاحتفال بهذه المناسبة، وأذكر أن أحد أبناء مدينة سلا، المثقفين، قدم إلي عندما كنت هناك، ودموعه تنهمر كحبات المطر، وخشيت أنه قد أصيب بسوء، لكن الأمر لم يكن كذلك، فذكر أنه قد حضر احتفالاً ألقيت فيه أناشيد بمدح الرسول، وقصائد كثيرة، فتاقت نفسه، ولم يقوَ على الصبر، وذكر أنه قد جمع من المال ما يمكنه من هذه الرحلة، فذهب مشتاقاً، وثم عاد بعد أسبوع مبتهجاً.
وابن الخطيب عندما كان في تلك المدينة الجميلة، شارك الناس بقصائد رائعة في خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، وابتهج وأبهج، كما هو حال القوم في زمانه.
وفي مدينة سلا كتب قصيدة عاطفية مؤثّرة في رثاء زوجته أم أولاده التي توقيت ودفنت هناك، وقد طلب من أحد النقاشين أن ينقش تلك القصيدة على قبرها، ففعل، وبعد وفاة زوجته بشهرين أرسل إلى سلطان المغرب، أبا سالم خطاباً رقيقاً يلتمس منه أن يعطيه أحد جواريه، فقيل السلطان وأرسل إليه جارية، لا ريب أنها ستكون حسناء ذات بهاء، واسعة العينين، متوسطة الردفين، عريضة المنكبين، لونها أبيض يميل إلى الحمرة، كما هي أوصاف الجواري الأندلسيات في ذلك الزمان، وسبب هذا الإنتاج البشري فيما يبدو أنه خليط من الأيبيريين، والنورمانديين، والصقليين، والعرب، والبربر، واليهود، هذا المزيج الذي كثيراً ما يختلط، ولا يتزاوج في خط واحد، جعل هذا الجمال يبدو أخاذاً، ومن الصدف أيضاً أن ابن خلدون صاحب كتاب العبر والمقدمة المشهورة، قد تزوج بجارية مثله مثل ابن الخطيب، في وقت لاحق، وابن الخطيب قد أرسل إلى ابن خلدون رسالة رقيقة بديعة فيها الكثير من المداعبة، يسأله عن أحواله بعد دخوله بتلك الجارية، فكانت مطارحة أدبية مميزة بين علمين من أعلام الأدب والتاريخ العربي.
وما توقفت عنده كثيراً هي تلك الرسالة التي أرسلها إلى السلطان المغربي أبي سالم، الذي يطلب منه السماح للبقاء في مدينة سلا، فكان مبرره أنه سيبقى في سلا حتى يكون بجانب أضرحة آباء السلطان، الذين دفنوا هناك، ليزورهم ويدعو لهم، ويترحم عليهم، في كل وقت، وأعتقد أنه قد جاوز الحد في التقرّب والتزلّف، والحقيقة أن السلطان قد أسعده ما ذكر، وأمر له بأن يجري له راتباً شهرياً كبيراً مقداره 500 دينار ولولده، وأن يستثنى من الضرائب، وأن يوفر له كل ما يحتاجه من مأكل ومشرب، ولأسرته وحاشيته، وأن تستجاب له طلباته في كل ما هو ممكن، فعله بما أورد قد حقق الغاية، ونال ما ناله من خير على يد السلطان، فقد كان وزيراً في بلاده غرناطة مدة طويلة، ثم مسجوناً، ثم منفياً في المغرب، ليعود مرة أخرى إلى غرناطة، وزيراً، ثم هارباً إلى المغرب، ثم يقتل بحجة الزندقة.
هكذا كان الأديب المؤرِّخ كانت مدينة سلا أحد محطات حياته.