د. حمزة السالم
إن كانت الحرب الأهلية هي التي مكنت لأبراهام لينكون من تشكيل مفاهيم الحرية والمساواة في الثقافة الأمريكية، ومنحته بلا منازع محل القمة في الرئاسة الأمريكية فإن الحرب العالمية الثانية هي التي مكنت فرانكلين روزفلت من نقل هذه الثقافة للعالم، ليؤسس مفهوم العالم الحر، ومنحته بلا منازع محل القمة في السياسة العالمية.
لم يكن يخفى على روزفلت، خطورة طموحات هتلر. وكان يؤمن بأن هتلر سيشعل حرباً في أوروبا، كما كان يؤمن بأن هذه النار، لا بد وأن تلحق بلاده.. ولكنه انشغل بالكساد العظيم الذي ورثه، والذي كان في أشد مراحل تصاعده.
وصل هتلر لسدة الرئاسة الألمانية، مع وصول روزفلت لسدة الرئاسة الأمريكية، وشتان بين الاثنين.. فهما وإن اجتمعا في النهوض ببلادهما، إلا أن التعيس هتلر أفسد كل شيء بغروره وسطوته وديكتاتوريته. وازداد قلق الأمريكيين مع بدايات صعود هتلر، التي اقترنت بتوجهه لسحق المعارضين، ولمهاجمته النمسا، ولتدخله لصالح الفاشية في إسبانيا. ولكن كان موقف غالبية الأمريكان، اعتباره شأناً خارج اهتمامهم ومصالحهم. وكانت أمريكا بالإجماع، ضد التدخل الأمريكي في أوروبا. وكانوا حديثي عهد بالحرب العالمية الأولى، التي لم يروا فيها سبباً وجيها لسفك دم مائة وستة آلاف أمريكي في أرض بعيدة وغريبة عنهم كأوروبا. فاجتمعت الثقافة الأمريكية آنذاك على الانعزالية.
فلم يرد روزفلت أن تدخل أمريكا حرباً باسمه، فتصير حرب روزفلت كما جعلوا التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الأولى، حرب ويلسون. والذي زج بأمريكا في الحرب الأولى بلا سبب مقنع للعامة.
وبالرغم من حذر روزفلت من عامة الأمريكان، إلا أنه لم يسلم من هجومهم العنيف عليه، واتهامه بتحضير أمريكا للتدخل في أوروبا، وذلك عندما شبه العدوان الفاشي بالمرض المتفشي الذي يجب عزله. ولذا فقد انخرط روزفلت في حملة حذرة وبطيئة للغاية، بل وأحياناً بحملة مخادعة للتوعية العامة. خاصة وأنه نوى أن يتجرأ على ما لم يتجرأ عليه أحد قبله، وهو خوض انتخابات الرئاسة لفترة ثالثة.
ولذا اقتصر الموقف الرسمي الأمريكي من تعهد روزفلت عدة مرات على عدم تدخل أمريكا في الحرب أبداً، وعلى اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية، كالحد من الهجرة، ومنع دخول اللاجئين اليهود الذين هربوا من محارق هتلر، وعدم بيع السلاح، لأيّ من الطرفين، وذلك رغم الكساد التي كانت تخوض أمريكا أوجه آنذاك. ودعا ملك وملكة بريطانيا لزيارة تاريخية لأمريكا، كإشارة لتعاطف الأمريكان مع البريطانيين في حال تعرضها للغزو. كما سحب السفير الأمريكي من برلين، وهو الإجراء التي لم تجرؤ بريطانيا وفرنسا أن تفعل مثله.
وقد بذل روزفلت كل جهده وحيله لإقناع الكونجرس ببيع السلاح لبريطانيا، إلا أن الكونجرس لم يقبل حتى النظر في مقترحاته. وروزفلت من حكماء العالم، فوقف موقف أبراهام لينكون من قبل، وهو أن لا يبدأ هو العدوان، ما لم يُعتد عليه أولاً.
لذا، لم يعلن الحرب إلا على اليابان فقط، عندما هاجمت اليابان بل هاربير -ودمرت الأسطول الذي بناه روزفلت بنفسه عندما كان نائباً لوزير البحرية-. ولم يعلن روزفلت الحرب على ألمانيا وإيطاليا، بل انتظر السفيه هتلر ليبدأ هو إعلان الحرب على أمريكا. وبذلك حصل روزفلت على الشرعية الكاملة، لخوض أمريكا حروباً دفاعية، ولكي لا ينقض تعهداته وأقواله بعدم التدخل في أوروبا، كقوله في خطبة له «ليحذر أيّ رجل أو امرأة طيشاً أو كذباً، يتحدث عن إرسال جيوش أمريكية إلى ميادين أوروبية».
وللحديث بقية ذو شجون،،،