د. محمد بن إبراهيم الملحم
دمج الأولاد في مدارس البنات هو محاكاة لواقع المدرسة المختلطة التي غالبًا يحظى فيها أطفال الصفوف الأولى بالمعلمات أكثر من المعلمين؛ ليوفر ذلك للطفل الصغير الرعاية التي غالبًا ما تتسم بها المرأة المعلمة والمربية لهذه السن. وهذا التصور وإن كان صحيحًا بدرجة نسبية مقبولة إلا أنه لا ينبغي أن يلفتنا عن حقيقة مهمة بشأن هذه التجربة: فهذا النوع من الاندماج في بيئتنا يختلف في طبيعته ومتغيراته عن الموقف في البيئات المختلطة؛ إذ إن الاختلاط جزءٌ من النسيج الاجتماعي؛ وبالتالي فإن المدرسة بوصفها مكانًا مختلطًا، يعمل فيها الرجال والنساء المعلمون والمعلمات، وكذلك يرتادها أولياء الأمور ووليات الأمور، يجعل منها جوًّا مماثلاً لما يعيشه الطفل في الخارج، بينما لدينا في التجربة المقترحة طبيعة مدرسة البنات ستفرض على الولد نمطًا خاصًّا، هو النمط البيتي «النسوي» الذي يفترض أن الولد بدأ يتحرر منه بعد أن غادر الروضة؛ ليدخل بدايات عالم الاعتماد على الذات للعيش في مجتمع خارجي يلائمه، ويحاكي نمطه وسياقه الاجتماعي الذي يعيش فيه أصلاً.
عندما يعيش الأولاد في أعمارهم السابعة والثامنة والتاسعة في بيئة «بناتي» فإن هذا يفوت عليهم فرصة تعلُّم الاعتماد على النفس، والتعامل مع الواقع المعاش في بيئتنا الاجتماعية كما هو دون تغيير أو تنميط؛ فمدرسة البنات لا تمثل بالنسبة للولد صورة لبيئته الخارجية التي يعيشها ويتعايش معها؛ ليفهم واقعه ومحيطه، بل هي تكريس لفكرة الولد «البيتوتي»؛ وهو ما قد يصعِّب عليه لاحقًا في سن العاشرة أو التاسعة التكيُّف مع الواقع الذكوري الذي سينتقل إليه. وكل ما أشير إليه هنا هو في مجال الحياة الاجتماعية للمدرسة، لا المجال المعرفي وعمليات التعلُّم؛ فهذه المنطقة ليست محل هذه المداخلة. وليس خافيًا أن المدرسة ليست مكان تحصيل المعرفة فقط، بل هذا لا يمثل سوى 50 -60 في المائة من دورها، ولكنها مسرح مصغر للحياة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان؛ فيتدرب الطفل على كل تفاعلاتها تقريبًا في بيئة مصغرة تناسبه؛ فهو يعيش حالات العطاء والتفاهم والتعاون والغضب والحزن والفوز والتنافس والهزيمة، ويفقد أشياءه ويعثر عليها، ويطلب المساعدة ويساعد الآخرين، بل يقرض ويقترض أحيانًا! وهكذا.. وفي هذا السياق لا ننسى أن طبيعة الطفل الولد الذكورية تناسبها التحديات بينما طبيعة المرأة (المعلمة) تميل إلى المساعدة وتكرار المساعدة، لا إلى وضع التحديات للطفل، بينما الرجل (المعلم) يميل أكثر إلى أن يجرب الولد ويحاول بنفسه.
كل هذا يعني أن الدمج في مدارسنا التي لا تقوم بيئتها الخارجية على الاختلاط أصلاً، سواء في البيوت أو في الأماكن العامة، هو تجربة جديدة كليًّا، وليست مجرد محاكاة لواقع المدرسة الغربية «الناجحة»، وليس هو مجرد توظيف لنجاح المعلمات في جودة التدريس والرعاية مثلاً (مع أن هذا مجرد انطباع وليس مبنيًّا على الدراسة والبحث)؛ وكل ذلك يدعونا إلى التأمل والحذر: التأمل في هذه التجربة ومعاملتها على أنها تجربة في المقام الأول لا على أنها استنساخ لنجاح قائم (وهذا يعني ضرورة تقييمها)، ثم الحذر من التسرع في التعميم، وبدلاً من ذلك قياس الآثار بإتقان ودقة لمقارنة الإيجابي منها بالسلبي، وتقييم الموقف بأسلوب علمي، يحافظ على الأجيال من الأضرار لا سمح الله. أنا شخصيًّا لست ضد التحديث أو التطوير بل أهوى التغيير، وأدعو إليه، لكن التغيير الدراماتيكي ينبغي أن يكون محسوبًا بدقة، خاصة عندما تكون الآثار اجتماعية أو نفسية، ولها انعكاساتها المؤثرة على الأجيال.