د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ما يُرى بعيدًا سيَقترب، وما نخاله قريبًا سيَغترب، والحياةُ مسارٌ قصيرٌ لا يحمل سمات الثبات، ولو ظنناه قابلًا لبعضه؛ فكذا يحكي الواقع، وبذا تُنبئنا الوقائع، ولعله يُعفينا من جدليَّات: «كنَّا فصرنا..» و»لماذا تغيرنا..» و»ليت أنَّا لم نزلْ..»؛ فالعالَمُ قبل الطباعة ليس هو ما بعدها، وعقب البوصلة مختلفٌ عما سبقها، ولعلهما (الطباعة ومعها الورق، والبوصلة وفيها الاتجاهات) أهمُّ مكونَيْن حادثَيْن في زمنهما، أسهما في التغيير المعرفي والمجتمعي الإنسانيّ الذي أضفى على حياة أجياله لونًا لم يُؤلفْ، ثم تألَّفَ وتآلفَ.
** التبدُّلُ هو الأصل، والتطوُّرُ طبع الحياة ومطمح الأحياء، ولا خلافات عميقة بشأن المخترعات المادية؛ إذ بها تطورت المدنيةُ عبر عصورها، وربما يصحُّ هذا على المعطيات غير المادية متى استطاعت التواؤم مع الثقافة السائدة لتتبنَّاها، أو كي لا تقف سدًّا أمامها. ويعني هذا أن التبدلات المادية سريعةٌ لا تستأذن، أما غير المادية فبطيئةٌ؛ تأخذ وقتًا لتجاوز التردد والتوجس بمراحلهما الصادة والمتضادة بين مُطلق الأخذ ومنطق الرد.
** وإذ لم تواجه السيارة والطائرة والقاطرة اعتراضًا مؤثرًا وقت توغلها في الحياة العامة إلا بمقدارٍ غير ذي بال فإن نتاج اللغات والثقافات والترجمات والنظريات ومخرجات التقنية وتحديث المجتمع لم تستطع النفاذَ بسرعة ويُسر لوجود من لا يعي المسافة بين التيار المادي المنطلق والمسار الإنسانيّ المستغلق، وما قد يعتورُهما من فرضٍ ورفضٍ وتغييرٍ وتحوير.
** والقضية الأهم هنا متصلة بالسعي الملحّ لمنع التصادم بين ثقافتَيْن متجاورتَيْن، تتأزمان في مبتدأِ المُدخل الجديد إلى حين إفراغِ كلتيهما ما لديهما من نقائض ونواقض؛ فإذا جرى استيعابُهما وصلت الثقافتان إلى رؤى متقاربةٍ متفاهمة، تتبدَّل فيها اقتناعاتٌ وسجالات، وتتجدد علائق وطرائق.
** لا يشكو أغلبنا من قبول المدخلات المادية لدرجة مسابقة صانعيها؛ فلا مشكلةَ معرفيةً أو ثقافيةً بشأنها، (وهذا لا يعني عدمَ وجود إشكالاتٍ اقتصادية واجتماعية، ولكنها ليست مجالَنا). وفي الوقت نفسه فإن التجاذبات حول المدخلات غير المادية موصولةٌ منذ عقود، وبعضها منذ قرون؛ فلا ضير منها، ولا وقت تلتزم به لإنهاء جدالها. والحكمةُ تقضي أن يُتاح المجال للتحاور دون أن يُطالب فريق بإلزام، وآخر بالتزام، بل لمن شاء أن يقول ويتقوّل، ولسواه أن يجيب ويتأوَّل، وللجميع أن يختاروا ما يرونه متفقًا مع اقتناعاتهم الآنيَّة التي قد تتبدل في المستقبل، على أن يظل النسيج المجتمعي كما الوحدة الوطنية بمنأى عن مَرامي الجدل كما إيهامات الوجل. وحين يتم هذا فستجري عملية تبادلٍ غير مرئيةٍ بين ثقافتَيْن بدتا متناقضتَيْن؛ لتصبحا متعادلتَيْن دون أن تسود واحدة، أو تبيد أخرى؛ ومن هنا يُصنع الوئام، ويسعد الأنام.
** التجسيرُ مفتتحُ التيسير.