سام الغُباري
أوقفتُ سيارة أجرة قاصدًا الذهاب إلى مقر السفارة البريطانية في الرياض، حملت أناقتي معي ورحلت، بذلة سوداء وربطة عنق داكنة، وقميص بلون الورد اخترته من القاهرة، وبداخل هذا النسيج المتباعد رجلٌ من اليمن يتسكع في شوارع عاصمة باردة هبطت في الصحراء كسفينة فضائية ضخمة.
صوت الريح يصفر من نافذة السيارة المهرولة في طريق الدائري باتجاه حي السفارات. إنه أوان العصر، والحيّ يكاد يخلو من المارة، السيارات الفارهة تتزاحم بمخارجه، وأنا الوحيد القادم إلى موعد ما بعد الدوام!، أخرجت هاتفي، وتحدثت إلى المسؤولة الإعلامية والسياسية في السفارة وهي حضرمية لطيفة أُعلمها بوصولي، فكانت في انتظاري عند عتبة البوابة الحديدية الضخمة وقد طوّقت عنقي ببطاقة زائر. دلفنا إلى صالة صغيرة تتفرع منها سلالم قليلة تنفذ إلى فناء واسع، جلسنا بالقرب من مسبح صغير، تحدثنا قليلاً، وجاءت شابة بيضاء مبتسمة، تنساب جدائل شعرها الأشقر بهدوء على كنزة سوداء صافية، وتخفي نصف وجهها الصغير بنظارة شمسية كبيرة، فسألت مُستقبلتي: هل هذه نائبة السفير؟، فأومأت برأسها ونهضنا معًا لاستقبالها وتبادلنا عبارات المجاملة المعتادة، ثم عُدنا إلى جلوسنا.. أنا بين فتاتين وعلى الجانب الآخر اصطف عدد من العاملين في مقاعد أثيرة منهمكين بكتابة أشيائهم على أجهزة محمولة نظيفة ولامعة.
بدأت بالحديث عن سعادتها باللقاء - هكذا قالت لي المترجمة - وسألتني: ما الذي يحدث في اليمن؟، قلت: سأكون دقيقًا في إجابتي، فعلى المجتمع الدولي أن يسمع شيئًا آخر قد لا يبدو مألوفًا لديهم، أومأت برأسها متحمسة والتقطت دفتر ملاحظاتها.. وبدأت تكتب ما قد يثير اهتمامها. حينها قلت كل شيء:
قلت إن البريطانيين يجب أن يدركوا جيدًا أسس الصراع في اليمن - يبدو أنهم يعرفون ذلك - فما يحدث اليوم ليس إلا معركة كشفتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ضمن سلسلة لأكثر من عشرة آلاف معركة خاضها من يُسمّون الحوثيين حديثاً في اليمن على مدى ألف عام رغبة في انتزاع الحُكم والثروة والسلطة والأرض لسُلالتهم من أقصى اليمن إلى أقصاه.
قالت: أنت تعني أن ما يحدث ليس انقلاب جماعة مسلحة طامحة في السلطة؟
أومأت برأسي متحمسًا وأضفت: لهذا الانقلاب جذر تاريخي، ولا يمكن فهم نواياه وأفعاله التدميرية بمعزل عن كل معارك الإمامة في اليمن، ومن اعتقد أن هذه الجماعة التي تصف نفسها بـ «أنصار الله» مجرد مجموعة من «الثوار» الطارئين على المشهد السياسي والعسكري فهو مخطئ في تقديراته ومعرفته التي ستُنتج عنها سُبُلاً عرجاء لا تفضي إلى الحل. وتساءلت بمرارة: لو كانوا ثوارًا وطنيين لتنازلوا قليلاً لحل يجمع اليمنيين إلى كلمة سواء، ولما استماتوا كل هذا الوقت من أجل خرافة تمنحهم وهم الاصطفاء المزعوم.
تعجبت الديبلوماسية الشابة وأطلقت سؤالاً مفاجئًا: أنت بهذا تنفي عنهم صفة اليمنية؟
قلت: لو اعترفوا بيمنيتهم أصلاً لسقط عنهم أهم شرط من شروط نظريتهم الديناصورية التي تنص على وجوب انتساب مُدّعي الإمامة إلى الحسن أو الحسين سبطي رسول الله الكريم. ولأجل هذا الانتساب تتوافر وظائف دائمة ومُقدّسة، وأنهم حتى هذه اللحظة ليسوا على استعداد للتخلي عن «هويتهم» المُدّرة للمال والأنصار، وفي سبيل تحقيق تلك الوظيفة نراهم يضرمون النار في كل شبر من اليمن ويحشون باطنها بملايين الألغام المتنوعة لإعاقة اليمنيين الثائرين من استعادة عاصمتهم المحتلة، وقد حسموا أمرهم بإعلان صريح يرفض أي عواء عرقي وعنصري تتكوم قطعانه في زوايا الأحياء والقرى مثيرة الرعب في نفوس اليمنيين العُزل الذين باتوا محاصرين في أدغال الهوية المناقضة للهوية الوطنية والحضارية لليمن.
قالت: وما الحل؟
قلت: أن تستسلم الحوثية، وتنسحب ضمن اتفاق شامل يضمن تنفيذ العدالة الانتقالية على كل المجرمين الذين ارتكبوا أعمالاً فردية بحق المواطنين العُزل، ما لم يتم ذلك فإن أي اتفاق لا يُقدّم حلولاً لهذه المعضلة «القانونية» قد يؤدي إلى نشوب معارك «ثأرية» بين الراغبين في الانتقام وخصومهم.
..
انتظرت حتى أنهت المترجمة نقل حديثي إليها، وتنفست عميقًا ثم أردفت مستدركًا: لا أحد في اليمن يبحث عن اجتثاث عرقي لهؤلاء، والمخاوف التي يشيعونها مجردة من الواقع لإلهاء المجتمع الدولي عن كارثة الاجتثاث العرقي للهوية الوطنية والدينية والتاريخية لليمنيين، ومحاولتهم الدؤوبة في تغيير ديمغرافي على الأنحاء الجغرافية في عواصم المُدن وتسميم عقول الطلاب الناشئين وتدمير أسس التعليم لإنتاج مجتمع مُضلّل يذهب إلى الموت دون أن يدري من يحارب، أو على ماذا يقاتل؟. فمن يقتل من في هذه اللحظة؟
..
أخذتني نشوة التوضيح، مستعيدًا جلستي المتحفزة وانطلقت كالريح: إذا نال هؤلاء من اليمن فإنها ستشكل تهديدًا مباشرًا لكل دول الغرب التي ستضرب رأسها مولولة على إرهاب مفاجئ يغزوها من الداخل!، وهنا توقفت للترجمة وقد أظهرت النائبة اهتمامًا وفضولاً لمعرفة مقاصدي، فعُدت إلى قعدتي المسترخية وشبَّكت أصابعي كرجل عميق وقلت: إن الحوثيين الذين يتسكعون في شوارع لندن ودول أوروبا وأمريكا ليسوا سوى قنابل موقوتة كأولئك الإرهابيين الذين ناصروا أسامة بن لادن في حروبه على السوفييت، ثم عادوا بصواريخهم وحروبهم على الغرب بلا استثناء، وفي ظل ارتباك متأخر أودى بأميركا إلى حروب دامية وعابرة للقارات بحثًا عن إرهاب مخبأ في جبال تورابورا المنيعة. إن كل حوثي يسكن في الغرب اليوم ويلقى دلالاً وآذانًا صاغية من السيناتورات والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، هو مخلوق يحمل عقيدة الخميني المتطرفة ومتعصب لعنصريته المذهبية التي ترى أن الغرب منظومة استكبارية شيطانية، وبضغطة زر من الخامنئي سيفاجئكم أولئك المخادعون وقد صاروا قنابل بشرية مدمرة!. رفعت إصبعي مُحذّرًا كمن يُلقي حكمة اليوم: يجب أن لا يطمئن المرء على حياة أطفاله وهو يُربي ذئبًا في منزله.
..
تحدثت معها بإسهاب عن الهوية اليمنية، وتيارها الوطني، وقد استرعى ذلك انتباهها الكامل، وقلت: أن الأقيال مؤمنون بقبول الآخر مهما كانت ديانته أو عقائده طالما أن هويته الأولى هي اليمن، إنهم فتية لا يفتشون في العقائد والضمائر كما يفعل الحوثيون الذين مارسوا إرهابًا على بقايا اليهود والبهائيين وكل جنس مخالف لهم حتى في المذهب ولو كانوا مسلمين، إن الإرهاب الحوثي شمولي النزعة وعنصري الهوى وعدائي إلى أبعد حد، وما لم يتم تحديد الهوية في اليمن فإن الصراع سيستمر لأنه نزاع بين هوية إنسانية تدعو بإسم اليمن وعرقية عنصرية يسيل شبقها على كل شيء وتنصر الإشتهاء وتحفز الرغبة، ليس في عائلة واحدة، بل يندرج شبق السلطة بتوزيع أغلب وظائف الحكومة على سُلالة يُقدّر تعدادها بمليون شخص، إنخرط غالبيتهم في قتال متعدد الأوجه على اليمنيين بإصرار يدفع نحو حرمانهم من الوظيفة والسلطة ويكتم عنهم الحياة المأمولة. إننا أمام مشهد ملحمي لشعب كامل يدافع عن نفسه من غارة مفاجئة انطلقت من شوارعهم وأحيائهم البسيطة مستفيدة من اختلال موازين السياسة وأربابها الحمقى.
..
ذهبنا إلى مجلس النواب ودوره في المستقبل، وضرورة اخراجه قانونًا يُجرم الولاية السياسية والدينية لأي فرد أو جماعة أو سُلالة، وأنه لا خيارات أخرى سوى الدولة للجميع أو لا دولة، ثم عُدنا إلى الحلول العامة، مُجيبًا عن أسئلة كمثل: هل بقي في الحوثيين رشيدٌ واحد يرشدهم إلى الحل ويدفعهم إلى السلام؟، بحثت سريعًا عن إسم واحد فلم أجد، وقلت أن عليهم التقصي عن حوثي غير ملوث بالموالاة أو الكلمة منه أو التحريض من عياله وأقاربه مع الإنقلاب العنصري. ولكي لا يبدو حديثي متشنجًا، استدركت قائلًا: أن ذلك صعب في ظل تشابك المواقف وتعقدها، ونأمل بروز أصوات حوثية من الداخل تكبح جماح هذا التدافع الأعمى نحو الموت.
..
انتهى اللقاء.. وسألت مترجمتي في طريقنا إلى بوابة الخروج عن إسم النائبة: فقالت: فيونا، كانت «فيونا» تمشي أمامي بخفة فتاة لم تتزوج بعد.