د.فوزية أبو خالد
ماذا قد يعني أن تكون على سفر لأسابيع أو لبضعة أشهر أو لعام أو عدة أعوام؟!
هذا سؤال طالما سألته نفسي في غربتي الطلابية في عمر الثامنة عشرة للدراسة الجامعية، وفي عمر متقدم لدراسة الدكتوراه، وفي رحلاتي العلاجية طفلة وفي عمر الزهور، وفي خريف العمر في رحلات علمية أو فيما أسميه الغربة المزدوجة غربة الألم وغربة الوطن.
ولكن تبقى نشوة السؤال،
هل يعني أنك في حالة دهشة دائمة ترى الأشياء بإحساس جديد وبأسئلة بريئة وكأنك لم تغادر الطفولة قط رغم ما تمر عبره من قيود الحدود من دولة لأخرى؟ ورغم الغصة التي تعتصر حنجرتك من جهامة ضباط الجوازات وأسئلتهم الاستجوابية اللزجة؟ ألا يعد ذلك الموقف في المطارات كافيًا ليلوث أي هواء جديد بارد أو منعش ينتظرك خارج المطار؟
هل يعني السفر أن نعيش عنفوان العمر باندفاعه وحماسه وبما يعترينا فيه من طيش الاكتشاف ونعمة الشجاعة؟
هل تعني حالة السفر اختبار ملكاتك في القدرة على تجريب أشكال أخرى لحياة لم تعهدها في العادات والتقاليد ومذاق الأطعمة ومواعيد الصحو والنوم والوجبات؟ وفي أساليب السلام واللبس والحركة؟ وفي معايير القيم والنظافة والكفاية؟ وفي أنظمة المرور ووسائل المواصلات وخارطة الشوارع ورموز العناوين؟ وفي لغة التعبيرات العاطفية واتجاهات التفكير؟
هل السفر هو العيش بين عالمين أوأكثر في لحظة واحدة؟ العالم الذي جئت منه والعالم الذي قدمت إليه بما يحتمل ذلك من الدخول في مأزق التضاد أو تمزق الذات بين أنايين في آن؟ الأنا التي أنت عليها والأنا التي أنت فيها، هذا عدا عن تلك الأنا التي يمكن أن تؤول إليها أو تتحول نحوها بمحض إرادتك أو بفعل السحر الخفي للسفر الذي قد يغير مجرانا فلا نعود كما كنا حتى بعد رحلة الإياب.
هل السفر قلق مؤقت من ترتيب أمور استقرارك بالموقع الجديد؟ أو اطمئنان مؤقت لمتعة التغيير؟ على ما في الموقفين من قياس دقيق لنسبة الصبر في دمك مقابل نسبة التحدي.
هل يعني أن تكون على سفر أن تعيش شجن المقارنة بين غموض الغربة وبين وضوح الألفة خاصة حين يجر الشجن إلى مقارنة سؤال الحرية في الحالتين بما يصعب معه التفريق بين حرية قد تكون في الحالة الأولى أمامنا إلا أننا بفعل الشعور بالاغتراب قد لا نعرف كيف نراها وإن رأيناها فقد لا نعرف كيف نتعامل مع بذخها، وبين حرية قد تكون في الحالة الثانية غير موجودة أو غائبة إلا أننا بفعل الألفة وخبرات البيئة قد نستطيع تخيلها أو اختراعها.
على أن سؤال العولمة عن حالة التشابه المملة التي تفشت على المستوى الاستهلاكي لحالة السفر والاستقرار معا في المطاعم والمقاهي وهندسة الأسواق المغلقة (المولات) التي علبت مساحة السفر وطوت بعده في قوالب وأسماء تجارية متناسخة في هيمنة عابرة للقارات من ناحية, والسؤال الوجودي من ناحية أخرى المتعلق بوقتية العمر البشري كحالة سفر ليس إلا مهما طال بنا المقام أو المستقر بين فكي كمائن الأمكنة يجعل من جميع الأسئلة أعلاه مجرد محاولة تأملية مترفة لأن نكيد للمجهول بأشواق المعرفة ولأن نزعج سلطات ما نعرف برغبة أن نتعرف على ما لا نعرف.
***
تصطك هذه الأسئلة بعظامي وتثير نشيجًا مكتومًا بين أضلعي عن حالات الحرمان من السفر وما قد تنسجه من أجنحة لأرواحنا أو ما قد تحيكه من شرائك لأحلامنا تجعل من يمرون بمضائق تلك التجربة يتطابقون بشكل جارح مع عنوان سيرة أدوارد سعيد الذاتية». لست في المكان أو خارج المكان
OUT OF PLACE
******
غرور الغربة ورهجة المجهول د. منيرة الغدير
غير أنه سيعز علي أن أنهي مقالي دون الإشارة إلى كتابة الغربة البهية التي رسمتها د. منيرة الغدير بدمها وبحبر الملاحم وبأفق فلسفي عال عن تجربة الاغتراب بمعناه الوجودي وبمعناه الإبداعي والمعرفي وسربت بعض سهامها وومضاتها عبر جريدة عكاظ. وإن كانت تجديدية طرح د. منيرة وتقاطعها مع تجارب الغربة العظيمة من ابن حيان لإدوارد سعيد تستحق قراءة أعمق وأشد حرقة أتركها لوقت قريب بإذن الله.
صورة ذاتية في مرآة محدبة
فاجأتني بالمعنى الباذخ للدهشة ترجمة شاعر شفيف وسامق قالت عنه د. سلمى خضرا الجيوسي أنه شاعر الأمل الشاسع والرؤية المستشرفة وهو الشاعر غسان الخنيزي لذلك العمل الشعري التفكيكي التأسيس للشاعر الأمريكي جون آشبري في قصيدته المستفزة للكثير من المعلوم والمعتاد الشعري التي تناص عنوانها مع لوحة الفنان الإيطالي في أواخر عصر النهضة الأوربي بارميجانينو.
***
ثلاث تمرات
كما أترعتني قصيدة ثلاث تمرات لفيلادلفيا لحاتم الزهراني في غربتها المتسربلة بتراب الأوطان وبترف السفر وبطعنات الغربة الغامضة والغفية التي لا ترى إلا بعين شاعر غر.
***
وكل ما ذكرت هو بعض الرقى والعزائم التي يتعاطها قلبي بالسر عني ليلهب في أحشائي دهشة السفر ويصب على جراحي حنين الوطن.