على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان، وتحديداً ثمانية عشر عاماً (منذ 1421هـ/ 2000م) وحتى أيام قليلة مضت مع نهايات عام 2018م، حمل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود على عاتقه أمانة ومسؤولية تأسيس قطاع السياحة والآثار في المملكة العربية السعودية وتطويرها، وهو القطاع الذي كان مجرد ذكر اسمه قبل هذا التاريخ ضرباً من الخيال، فأي قطاع سياحي في دولة لم يفكر مواطنوها إطلاقا في مقوماتها السياحية، وكانوا يتحينون فرص العطلات والإجازات للسفر إلى دول الجوار الجاذبة أو إلى أوروبا، وأي قطاع آثار في دولة لا يعلم سكانها أسماء أو مواقع معالمها الأثرية!. وقد تحمل الأمير سلطان الأمانة فأداها على خير وجه، وبدأ العمل بهذا القطاع في مرحلة التأسيس أميناً عاماً للهيئة تحت رئاسة كبيريها على التوالي ابنا المؤسس الأمير سلطان، والأمير نايف -يرحمهما الله-، ثم تولى هو رئاسة الهيئة على مدى عقد كامل فأتم ما بدأه معهما.
ولما كانت مرحلة التأسيس في أي مجال هي أصعب مراحل العمل لما تتطلبه من رؤية ثاقبة، واستشراق للمستقبل، ووضع نظم للعمل، ومواجهة التحديات، وضرورة التعاون مع القطاعات الأخرى، وفي كل هذا ما يوضح صعوبة مراحل البدايات، ولكن سموه لم يكن طموحه فقط هو التأسيس، بل التأسيس ثم التطوير، فالتطوير المستمر، ولذلك كان هناك في الهيئة الجديد في كل يوم، وفي هذا المقال لا يمكن حصر إنجازات الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز في مجال السياحة والتراث، لأنها، وبصدق، إنجازات تحتاج إلى كتب - وليس كتاب- للحديث عنها والتعريف بها، وفي هذا الصدد أستشهد بما أصدره سموه عن تجربته في الهيئة في كتاب يعد من المراجع المهمة في العمل التأسيسي والتطويري والإداري، وأنصح كل مسؤول في موقعه أن يقرأ هذا الكتاب، وإني لعلى ثقة في أن قارئه سيجد فيه ما يفيده مهما كان مجال عمله، وقد فاقت صفحات هذا الكتاب الخمسمائة صفحة، وقد أبدع سموه في اختيار عنوان الكتاب، والذي أوضح في مقدمته أن ذلك العنوان جاء من وحي كلام والده، ووالدنا جميعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله حين زار الهيئة، بعد سنوات قليلة من تأسيسها وإشادته بما تم إنجازه وما تحول مما كان خيالاً إلى ما أصبح ممكنا، فاختار سموه «الخيال الممكن» عنوانا لكتابه.
إن الكتابة عن سلطان بن سلمان ليست بالأمر الهين على الإطلاق، فالكاتب يحار بين الكتابة عن شخصه كإنسان، وبساطة تعامله مع مرؤوسيه بإنسانية الإنسان ولكن دون إغفال لحسم المدير، وبين الكتابة عن نموذج في العمل الإداري تتجسد فيه كل معاني المثابرة والإصرار على تحقيق النجاح تلو النجاح، وتزداد الحيرة حين يود الكاتب عرض إنجازات سموه مع الهيئة لكثرة ما حقق من إنجازات، ولعلي في هذه السطور القليلة أعرض لثلاث ومضات سريعة علها تعكس بعضاً من شخصية ورؤية هذا النموذج الإنساني والإداري المتميز.
الومضة الأولى كانت في بدايات تأسيس الهيئة حين تبنى سموه رؤية الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- في أن عمل الهيئة دون وجود ظهير أكاديمي علمي متخصص لن يكون مفيدا لها، فكانت الفكرة إلى ضرورة وجود جهة علمية متخصصة في مجالات السياحة والآثار، فجاءت كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود لتكون هي هذا الظهير، وكانت حين تأسيسها سنة 1426هـ من الكليات الجديدة على مستوى المملكة والخليج، واليوم تزخر العديد من الجامعات السعودية بوجود أقسام في تلك التخصصات، وتسعى بعض جامعاتنا إلى إنشاء كليات مماثلة في تلك التخصصات، ولعل ما يؤكد رؤية سموه كذلك في المجال الأكاديمي هو ما اقترحه في إحدى جلسات المجلس الاستشاري لكلية السياحة والآثار، الذي يرأسه سموه وينوب عنه معالي الأستاذ الدكتور بدران العمر وأَشْرُفُ أمانة مجلسه حالياً، بضرورة وجود مسارات متخصصة تساند الدراسات الأثرية فاقترح سموه إنشاء مساري الترميم وهو المسار الجديد حاليا بجامعة الملك سعود، والعمل جارٍ لتحقيق رؤية سموه بإنشاء مسار للدراسات المتحفية.
وتعكس الومضة الثانية تطور فكر ورؤية سموه مع مسيرة التطور هو ما طرأ على مسمى الهيئة نفسها من تغيير، فقد بدأت بمسمى الهيئة العليا للسياحة، ثم لما كان من الضروري ضم قطاع الآثار وتطويره تغير المسمى إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار، ولما انفتحت المملكة على العالم وبدأت في تسجيل مواقعها في قائمة التراث العالمي لليونسكو واتضحت الصورة أكثر، واتساع المفهوم العام للتراث تغير المسمى إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ورغم ما قد يبدو للقارئ من بساطة هذه الملحوظة إلاّ أنها في غاية الأهمية فهي تعكس مرونة في شخصيته، ومسايرة التطور، وعدم الحرج في التحول مما قد يكون غير ملائم إلى ما هو أكثر ملائمة.
أما الومضة الثالثة وهي ما أراها أهم إنجازات سموه على الإطلاق، فهي نجاحه في تسجيل خمس مواقع تراثية في المملكة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، وهي: مدائن صالح، وحي الطريف، والدرعية التاريخية، والنقوش الصخرية في جبة والشويمس، وواحة الإحساء، والقائمة مستمرة لتسجيل مواقع جديدة، فضلاً عن تسجيل عدد من مواد التراث غير المادي، وقد تم كل ذلك في أقل من عشر سنوات، بما يعني تسجيل موقع كل سنتين، وهو أمر يدرك المتخصصون صعوبة تنفيذه فتسجيل الموقع بما يحتاجه من تخطيط وتطوير وتهيئة وإعداد ملف واستكمال متطلبات يتطلب الكثير من السنوات. كما أن المملكة بهذا العدد من المواقع المسجل في قائمة التراث العالمي لليونسكو اقتربت بل وتفوقت على كثير من دول العالم في إنجاز تسجيل مواقع التراث العالمي رغم البدايات المبكرة التي سبقتنا بها كثيراً تلك الدول.
هذه مجرد ومضات ثلاث لإنجازات سموه، يضاف إليها إنجازاته في مجالات التراث العمراني، والقرى التراثية، وتطوير المتاحف الوطنية، وبرنامج المتاحف الخاصة، وتوفير مجالات الاستثمار السياحي، وتطوير المنتجات السياحية، وتوفير الوظائف السياحية، وبرنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث، وغيرها الكثير والكثير. ولذلك فإن تركه للهيئة في الوقت الحالي جاء بعد أن قدم لها كل ما يمكن تقديمه، وبالشكل المتميز، وهنيئا له بمنصبه الجديد وأعانه الله على تأسيس قطاع جديد، ولعل العمل هذه المرة في قطاع يعشقه ويهواه فكثيراً ما كان يردد أن العمل في قطاع السياحة والتراث أصعب بكثير من العمل في الفضاء، المجال الذي عشقه فنجح فيه كعادته في النجاح وكان ولا يزال أول رائد فضاء في تاريخ العرب، فهنيئا لهيئة الفضاء برائد الفضاء وخالص دعائي له بالتوفيق والنجاح.
وكأني به يقول:
إذا القومُ قالوا مَن فَتًى؟ خِلتُ أنّني
عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ
وأما خليفته في هيئة السياحة والتراث معالي الأستاذ أحمد الخطيب، فله كل الدعاء بالتوفيق وأن يكون خير خلف لخير سلف، ولم لا والخطيب هو أحد رجالات المرحلة الناجحين المتميزين، وتشهد له سيرته الذاتية كاقتصادي وإداري متميز، كما تشهد له المناصب التي تولاها وأثبت فيها نجاحات متعددة، ولعل آخرها هيئة الترفيه.
وفي هذه التغييرات، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب ما يعكس رؤية سيدي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، وحرصهما على وضع هذه الدولة في المكانة التي تستحقها بين الدول. وفقهما الله وسدد على طريق الحق خطاهما. آمين.
** **
أ.د. عبد الناصر بن عبد الرحمن الزهراني - عميد كلية السياحة والآثار جامعة الملك سعود