عبد الله باخشوين
** أواخر عام 1971 عرفت الصديق العزيز الأستاذ عبد القادر شريم من خلال مزاملتي له في جريدة (عكاظ) غير أن تأثيره عليّ امتد فترة طويلة من الزمن.. وربما هو ماضٍ في عقلي ووجداني حتى الآن.. لأنه تأثير (ثقافي) لا علاقة له بالصحافة.
فقد كنت قادمًا للصحافة بأحلام (شاعر) مولع بالشعر الحديث، وأحفظ معظم قصائد ديوان (منزل الاقنان) لبدر شاكر السياب.. وماضٍ في مطاردة أخبار الشعر والشعراء، وتلقف ما يرد من نثار شعرهم في الصحافة اللبنانية، واقتناء دواوينهم إن أمكن الحصول على بعضها!
غير أن عبدالقادر شريم فتح على عقلي ووجداني أبواب (الصوفية)، وأهداني نسخة نادرة من (رباعيات الخيام) ترجمة الشاعر الكبير أحمد رامي، ومختارات من شعر (الحسين بن منصور الحلاج)، لم أقرأ أيًّا منهما.. أولاً لأنهما من الشعر (التقليدي)، ثانيًا - وهو الأهم - لأن كل دعاة ورموز الشعر الحديث لا همّ لهم في الدعوة لكتابة شعر (ثوري) سوى توجيه النقد للنزعة (الصوفية)، واعتبارها نوعًا من الترف و(التضليل) الذي يبتعد بالشعر عن المضامين الثورية والوطنية.. وأنا كنت ثوريًّا ووطنيًّا؛ لذلك اكتفيت بما كان عبدالقادر شريم يدثني به عن الصوفية وأدوارها ورموزها وأطروحاتها التي كان قد ذهب بعيدًا في قراءته فيها.. ثم بعد صدور مسرحية (مأساة الحلاج) للشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور عاد النقد، و(ألبس) الحلاج لباسًا (ثوريا).
بعد ذلك في العراق وجدتُ نفسي أستعيد من عبدالقادر الكثير مما حاول أن يعلمني إياه، خاصة أن أساتذتي الكبار في العراق (قتيبة ومنعم وطهمازي) كانوا يضعون الصوفية في طليعة التجديد في النثر العربي، ووجدت نفسي أعيد قراءة بعض الحلاج:
(نظري بدء علتي
ويح قلبي وما جنى
يا معين الضنى علي
أعني على الضنى).
وأتوقف عند:
(إلى كم أنت في بحر الخطايا
تبارز من يراك ولا تراه
وسمتك سمت ذي ورع ودين
وفعلك فعل متبع هواه).
وعند ذكر عمر الخيام قال من حدثني منهم إن ترجمة الشاعر العراقي الصافي النجفي هي الأكثر دقة.. لكنه نصحني بقراءة ترجمة أحمد رامي؛ لأنها الأكثر (طلاوة في شاعريتها).
ولم أحتج للدخول في (الأدب المقارن) غير أني ابتعدتُ عن تلك الرباعيات التي غنتها (أم كلثوم)، ودخلت في بحر التأملات:
(عاشر من الناس كبار العقول
وجانب الجهال أهل الفضول
واشرب نقيع السم من عاقل
واسكب على الأرض دواء الجهول).
ثم يأتيك قوله:
(عامل كأهليك الغريب الوفي
واقطع من الأهل الذي لا يفي
وعف زلالا ليس فيه الشفا
واشرب زعاف السم لو تشتفي).
وفي رباعية أخرى يقول:
(من يحسب المال أحب المنى
ويذرع الأرض يريد الغنى
يفارق الدنيا ولم يختبر
في كده أحوال هذي الدنى).
وفي غفلة مني وجدت أني ماضٍ في دروب الحياة بطريقة لا تُخفي الكراهية لمن أكره.. أما كل ما أحببت في حياتي، بدءًا من أبي وأمي، وانتهاء بما لا ينتهي.. فقد اكتشفت أنني أعاني من خلل معيب، يركز في أن المحبة تُحاك في داخلي بعاطفة أقرب ما تكون للعشق الصوفي الذي يفتقر للتأمل العقلي في كثير من الأحيان؛ الأمر الذي تبعته نكسات تؤكد أن الإنسان أحوج ما يكون في علاقته بمن يحب إلى أن يزاوج في محبته بين العقل والقلب؛ لأن هناك من (الحب ما قتل).