د.عبدالله بن موسى الطاير
نجحت العملية ومات المريض، يقابله في فيلم «حرب تشارلي ويسلون» عبارة «لقد حققنا نصرًا عظيمًا، لكننا فشلنا في النهاية». أستحضر هذين المثلين وأنا أتصور العالم بعد خمسين عامًا، وقد تمتعت الدول الإسلامية بالعضوية الكاملة في الحضارة الغربية.
يا له من نصر عظيم، حين يصبح عالمنا الإسلامي وقد تماهى مع النموذج الذي طالما حلم، وعمل من أجل اللحاق به، واعتبره سقف طموحه، ومعيار تقدمه. إنه الحضارة والصناعة والانفتاح والترفيه والثقافة والتقدم العلمي والعلمانية العقلانية، والليبرالية الحالمة التي تترك كل شخص في حاله يمارس شؤونه دون رقابة من أحد، ودون تضييق على خياراته. الذي سيقض مضجعي بالكوابيس هو سوء المنقلب الذي سترسو عليه مراكب الراحلين نحو الحضارة الحلم، عندما يفاجئون أنهم وصلوا حين أفول تلك الحضارة، وتراجع زخمها وانكشاف عوارها.
لست أنا الذي يتوقع خيبة الأمل تلك، ولست كارهًا للحضارة الغربية في حد ذاتها، وإنما أجتر مع القارئ الكريم هواجس الغربيين أنفسهم. روبرت سكيدلسكي الأستاذ الفخري في الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، وزميل الأكاديمية البريطانية في التاريخ والاقتصاد، وعضو مجلس اللوردات البريطاني ينقل عن معهد الأبحاث الاجتماعية Ipsos Mori: أن «الافتراض التلقائي لمستقبل أفضل للجيل القادم قد انتهى في معظم أنحاء الغرب». وأن تراجع الحضارة الغربية حقيقة يحاول السياسيون أن يتجنبوا ذكرها ويستعيضون عنها بمصطلح «التحديات» التي تواجه تلك الحضارة. وقد استخدم -في مقالة نشرتها صحيفة الجارديان البريطانية في 17 نوفمبر 2015م بعنوان: «هل بلغت الحضارة الغربية محطة التراجع»- مصطلحين غاية في العمق: «الركود العلماني» و»الاقتراض الزماني». ذلك أن الحركات الشعبوية في أوربا تبعث الدين المسيحي من مرقده وتفرز مجتمعاتها على أسس عرقية وهوياتية تخلب بها ألباب الجماهير التي تتحصن ضد الاندماج مع غيرها من الأعراق والأديان، وبذلك يمكن القول إن العلمانية لم تعد ذلك الحل السحري الذي انتشل أوربا من بحيرات الدم التي شكلتها الحروب الطائفية، ونقلها إلى عصر الرخاء الاقتصادي والنهضة الصناعية والأمن المطلق. وقد قارن الكاتب الوقت المتبقي للحضارة الغربية بما يحتسبه الحكام من الوقت بدل الضائع في المباريات، وبذلك فإنه من اليسير الادعاء بأن الحضارة الغربية تعيش حالة الاحتضار. ليس هذا فحسب وإنما يزداد توصيفه لحال ثقافته دقة الإقرار بأن الحضارة الغربية هي ثقافة الدين (بفتح الدال)؛ فهي تعيش على الاقتراض المالي على جميع المستويات. الحضارة الغربية مهددة في مستقبلها لأنها قوضت الأمن في الحضارات المنافسة لها، وأعني هنا تحديدًا الحضارة الإسلامية التي تمثل نحو مليار و700 ألف مسلم يمثلون ربع سكان الكوكب تقريبا. فالعالم الإسلامي الذي كان آمنا في ذاته وفي علاقته بغيره قبل مائة عام، لم يعد كذلك الآن بسبب الجشع الغربي المدفوع بالاستعلاء الحضاري الذي استفرغ جهده وأمواله في تقويض الأنظمة الحاكمة وتفكيك الروابط الثقافية وتفتيت الأواصر العرقية من أجل خلق كيانات تابعة له تؤمن بأن الحضارة الغربية هي المثل الأعلى، وتسخر تعليمها وإعلامها في دفع مواطنيها إلى اللحاق به والاقتباس من مشكاة التنوير فيه. فالغرب لم يعترف للمسلمين ولا غيرهم بحق التمايز معه، ولم يسمحالتنوع، بل وضع معايير للتقدم ومقاييس للحوكمة جميعها تقود المسلمين إلى التبعية للحالة الغربية. تبعية في التفكير، والتخطيط والتعليم والإعلام والترفيه وأنظمة الحكم وطريقة الحياة. يريدون أن يروا العالم نسخة مكررة من الحضارة الغربية التي يعتقدون أنها الأصلح للحياة، ويجب فرضها طوعًا أو كرهًا.هذا الاستلاب الحضاري لم يحقق للغرب الأمن، ولم يترك الآخرين في أمان. فعندما كان الشرق شرقًا والغرب غربًا كان هناك حدود للتنوع تبقي على خصائص كل حضارة مما يجعل عالمنا جميلاً بتعدديته. وكان الكوكب أكثر أمنًا لأن كل فريق يعمل داخل حدوده. الإمعان في إخضاع العالم إلى طريقة الحياة الغربية ولّد فوضى عصفت بالحلم الغربي الذي يقول عقلاء أهله أنه يتهاوى.
والسؤال: هل يمكن لنا التوقف عن اللهاث خلف وهم التغريب، والنظر داخل المكون الإسلامي لعلنا نجد وسيلة نتغير بها إلى الأفضل، مع المحافظة على حضارتنا، قبل أن نصل إلى المحطة الغربية ولا نجد أحدًا في انتظارنا؟ ليست دعوة للانكفاء، والمفاصلة، وإنما تحذير مبكر من خيبات قادمة.