سام الغُباري
كأي هزيمة أو نصر ليست اللغة وحدها من تتحدث إلينا لتنبئنا بخيباتنا. أحيانا تأتي الهزيمة وأنت تراقب شعر رأسك يتساقط في مواجهة صديق يتدثر بشعره! أشياء صغيرة في هذه الحياة لكنها مهمة بالنسبة لي. كأن تصبح رشيقًا بجسد مفتول، أو أن يعود بك العمر لتتسكع في شوارع القاهرة بشوق مجنون إلى الفوضى.
مؤسف أن تظهر على رأس كل عام وأنت ذلك الذي كان في العام الماضي. لا شيء تبدل سوى أن الشيب يغزوك، كأنه ثأر لا بد منه! أستسلم في الفجر لصهوة في داخلي وأتذكر أن «صالح» ضائع في مرقده بلا شاهد! فيقبضني شيء في صدري. إنها جريمة إخفاء قسري لرجل ميت خشية من بعض الحجارة في رأس تربة مكومة على دمه! تلك أحد ملامح الهزيمة لأربعة عقود متتالية من حياة اليمنيين. نصف عمر كامل أخفاه الحوثيون في ثلاجة موتى!
في أطراف المعركة تجلب «الحديدة» سبعين في المئة من موازنة البلد الذي يقاتل بعضه. ينتقم من نفسه، ويطعن جسده المسجى على ساحل أحمر، وخلف أكوام القمامة يبحث طفل تهامي عن لقمة خبز تركها ثري متخم بالقرف. ولأنه كريم يستضيف معه الذباب وعددًا من الأصدقاء لتناول مخلفات الحرب وفتات الحوثيين.
أحيانًا أشعر بالخجل لأنني ولدت هناك، حين تحملني الطائرة في شتاء الله إلى بلدان بعيدة عن مسقط رأسي، أدرك كم هي اليمن مولعة بالدم المتجدد، احتفالات لا تنتهي، على سلطة لا تساوي شيئًا، أشعر بأن ثمة من ينتقم منا، وأسأل نفسي من هؤلاء؟ ولا أجيب، فقط يراودني شعور بالحيرة، انقباض بارد يحنو بحسراته على بلادي الميتة. أتلفت باحثًا عن وجه متهم واحد لأخنقه بيدي فيسقط سيفه المسلول عنا.. أفتش عن شيطان كامن في زوايا الموت وأزقة الصرخة الخمينية الملعونة.. أبحث عن رفات شيطان ميت في معارك اليمنيين الغاضبة، عن شيء أسود، فيدور رأسي هنا، هناك، لا شيء يا رجل. أسمع صوت السفاح يدعو أنصاره إلى القتال متحديًا رغبة اليمنيين في اختيار حاكم منهم، وأرى سلالته ينسلون من ثنايا الحواري حاملين بنادقهم وملازمهم وأفكارهم القاتلة.
أنا غاضب لأني لا آكل كثيرًا، ورغم العَدْو تنهشني عدوى السمنة، غاضب لأني لم أجد كلبًا ينبح في وجهي، ويعدو خلف دراجتي النارية في سباق أقسم الكلب ألا يفوته منه شيء.. غاضب خجول من إجابة فضول صحفي أشقر يسألني عن سبب الصراع في اليمن، ماذا أقول له؟ أن مجتمعًا كاملاً من العنصريين الدعاة إلى الماضي أطلقوا سهمًا تائهًا في معركة صفين، اخترق الزمن ليستقر في قلب صنعاء! سيرفع حاجبَيْه مندهشًا ويقول جملته المعتادة: بربك قل كلامًا معقولاً! وهل تظنني مجنونًا يا ابن التعيسة!
أحيانًا يسرقني الوقت فوق ركابي مطالعًا أسماء عائلات واحدة، سرقت أفئدتها في معارك الساحل الغربي حتى لم تعد تجد لها رجلاً، فقط نسوة حشدهن «ابن بدر الدين» مرة أخرى إلى الجحيم، يقسم هذا الميت على دفن كل كائن حي ينتمي إليه سلاليًّا، كأنه يبغضهم، يقول لهم أين كنتم وأنا أطارَد كالجرذ من كهف إلى آخر في سنوات الحروب الست؟ خذوا ما كنتم منه تفرون؛ فإنه ملاقيكم، وأنا سائسكم إلى الموت جماعة وفرادى، سأدفعكم إلى جهنم لأبقى وحيدًا. السيد الأخير في زمن لا يتكاثر فيه شيء سوى الأنين.