د.عبد الرحمن الحبيب
الإعلام الإخباري الخارجي الموجه للعالم العربي ينطلق أغلبه من الغرب لكنه صار يواجه تحدياً كبيراً من روسيا.. قال فلاديمير بوتين بمقابلة أجريت معه بعد بضع سنوات من إطلاق قناة «روسيا اليوم إنجليزي»: «حين صممنا هذا المشروع عام 2005، كنا نعتزم طرح لاعب قوي آخر بالساحة العالمية.. وأيضاً نحاول، ودعوني أشدد على هذه النقطة، أعني نحاول خرق الاحتكار الأنجلوسكسوني على مسارات المعلومات العالمية» (معهد واشنطن).
بالمقابل يرى أغلب المحللين الغربيين أن هذه القناة تشكل إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية في حرب المعلومات التي تستخدمها روسيا بأجندتها المعادية للغرب؛ بينما يرى الروس أن هذا المنطق يشكل إحدى ظواهر «فوبيا روسيا» وهوس ضد روسيا بالإعلام الغربي خاصة من بريطانيا..
بيد أن الإعلام الروسي الناطق بالعربية نال تركيزاً روسياً أكثر مما نالته كافة اللغات الأخرى، مع تركيز مقارب بالإسبانية، فبعد بث القناة بالإنجليزي تلاه البث بالعربية عام 2007، ثم بالإسبانية 2009، ثم فرنسية وألمانية 2010، ثم صينية 2015 .. وتحظى «روسيا اليوم العربية» بمتابعة أضعاف متابعتها بالإنجليزية كما تشير الاستطلاعات والمؤشرات مثل مؤشر «أليكسا».
وقد ظهرت خدمة أخبار «سبوتنيك» الروسية عام 2014 بنفس خط «روسيا اليوم» ولكن بأسلوب مختلف. وتشير الاستطلاعات إلى سعة انتشار هاتين الوسيلتين بالعالم العربي، مع تخطي جمهور «روسيا اليوم العربية» جمهور كل من «بي بي سي العربية» البريطانية و«الحرة» الأمريكية والقناة الصينية بالعربية (استطلاع شركة نيلسون). إلا أن الأهم من النشر التلفزيوني انتشارهما النشط عبر الإنترنت بنشر دائم ومحتوى تفاعلي ضخم، فالمحتوى الإلكتروني من «روسيا اليوم العربية» هائل وأكثر تدفقاً من أي موقع ينشر بالعربية في تويتر وفيسبوك..
لكن الدراسات الغربية تركز فقط على الإعلام الروسي الموجه للغرب إلا نادراً مثل دراسة أصدرها معهد واشنطن للباحثتين آنا بورشفسكايا وكاثرين كليفلاند بعنوان «الدعاية العربية لروسيا». الدراسة تتهم هاتين الوسيلتين (روسيا اليوم وسبوتنيك عربي) بفبركة الأخبار والتضليل والانحياز ضد الغرب. وإذا تجاوزنا هذه الاتهامات واستخدمنا المعطيات الوصفية للدراسة، فسنجد أن الشرق الأوسط أصبح ساحةً إعلامية متنامية للنفوذ الروسي الذي استثمر بشكل كبير (مئات ملايين الدولارات) للوصول إلى الجمهور الناطق بالعربية أكثر منه للوصول للجمهور الغربي.. إضافة إلى أهمية المنطقة بالنسبة لروسيا نتيجة نمو الأقلية المسلمة الكبيرة فيها مقابل تراجع العدد الإجمالي للسكان.
لماذا انتشرت بهذه السرعة؟ تشير الدراسة أنه بسبب طبيعة المشهد الإعلامي بالشرق الأوسط، إلى جانب تاريخ من الشك بمصادر الأخبار الغربية والإحباط العام بالمنطقة إزاء الغرب، مما جعل روسيا تقدّم وسائل إعلامها الخاصة كبديل أفضل. إضافة إلى تنامي الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، فالتركيز الروسي على هذه الوسائل أتى نتيجة التزايد الضخم بعدد قراء الأخبار بالعالم العربي بهذه الوسائل أكثر حتى مما هو بأمريكا؛ فقد وجد استطلاع أجري عام 2018 أن الشباب العربي يلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل مشاهدة الأخبار (63 %) أكثر منه إلى التلفزيون (51 %)، حسب معهد واشنطن.
فما هو أسلوب التغطية؟ عادةً ما ينشر موقعا روسيا اليوم وسبوتنيك مقالات إخبارية موجزة، وأحياناً مقالات افتتاحية أطول؛ وتساعد المقالات الواقعية التي تُنشر بسرعة وبكثرة على رسم معالم الآراء الإعلامية من خلال عناوين مثيرة. وتطوّر هذه الوسائل صورةً لموسكو كقوة عظمى بالشرق الأوسط وتقدم الغرب وفق نظريات الشك والمؤامرة القائمة في أوساط متابعي الأخبار العربية مع تقديمهما بالوقت نفسه تقارير دقيقة لبناء المصداقية وكسب الجمهور العربي تعمل على تغطية قضاياه المحلية والقصص ذات الأهمية الإنسانية بالمجتمعات العربية. وتعدّل هذه الوسائل لهجتها وفقاً للجمهور في كل منطقة عربية مع الحفاظ على موقف معادي للغرب، حسب الدراسة.
وغالباً ما تُعرِّف «روسيا اليوم العربية» مصادرها على أنهم أكاديميون ومحللون يحظون بالاحترام بينما تستخدم «روسيا اليوم الإنكليزية» أسلوب يلجأ غالباً إلى الاستهزاء والسخرية لإظهار ثغرات في «الرواية الغربية السائدة» تشكك بها مقابل اعتماد «روسيا اليوم العربية» على الروايات الإعلامية العربية السائدة، وخاصةٍ تلك التي تعزز نظرةً معاديةً للغرب. فخطها العام يصور أمريكا بأنها مدارة من جهات متناحرة (ترامب والكونغرس والإعلام) مع تصاميم «بغيضة» بشأن الشرق الأوسط، حسب تعبير تقرير للجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للعلاقات الخارجية. كما تتبنى المقالات فكرة «الدولة العميقة» المصممة على تقويض السلطة التنفيذية الأمريكية حسنة النية. وتصور حلف «الناتو» بطبيعته العدائية في سياق مؤامرة ضد روسيا. أما أخبار روسيا فتحظى بتغطية أساسية للجمهور الناطق بالعربية، مركزة على المهارة العسكرية لروسيا، بما يتماشى مع مصلحة موسكو في بيع الأسلحة للمنطقة، حسب الدراسة.
هل نجحت «روسيا اليوم» و«سبوتنيك عربي»؟ الأرقام تشير إلى تزايد سريع لمتابعيهما، ورغم أنها ليست بالضرورة دقيقة، كما أنها كمية لا تقول كثيراً عن النوعية، فإنها تشير بوضوح لقوة تأثيرهما. ومهما يكن من أمر فإنه يطرح تحدياً متزايداً أمام الإعلام الغربي ومصالحه بالشرق الأوسط إذا اعتبرنا أن ما يحصل بين الطرفين هو حرب معلومات تتداخل فيها القوى الناعمة والخشنة على حد سواء.