د. محمد عبدالله الخازم
الجمعيات العلمية يُنظر إليها كمؤسسات مجتمع مدني، في المجالين الأكاديمي والمهني، وجاء إنشاؤها حتمياً للمجتمع الأكاديمي، ليكتمل الشكل العام للمنظومة المعرفية لدينا؛ جامعة، بحث علمي، مجتمع أكاديمي، جمعيات علمية؛ أسميناها جمعيات علمية (بالعربي) وألبسناها شكل الصبغة المهنية (وهمياً) وأمام الخارج نقدمها كنقابة أو بديلاً للنقابة، وفي التعريف هي مؤسسة مجتمع مدني. منذ البدء كان هناك تساؤل عن الشكل النظامي لهذه الجمعيات ومبررات إلحاقها بالكليات وكأنها إحدى لجان القسم الأكاديمي، وكحلول توافقية ودرءاً للتكرار، اشترطنا جمعية واحدة في التخصص ولها ضم ثلثي أعضاء مجلس إدارتها من خارج القسم الأكاديمي الذي أنشأها، وضمناً المقصود من الجامعات الأخرى. يكفي اثنين أو ثلاثة أكاديميين بأي قسم لتأسيس جمعية علمية يرأسونها ويسيطرون على مجلس إدارتها وتحسب لهم إنجازاً و(برسيتيجاً) في السير والترقيات الأكاديمية. لن أشرح الظروف الجيوسياسية والإدارية التي رافقت حقبة التأسيس تلك، فذلك أمر يطول وله محاذيره.
مع التطور في كل المجالات، والصحي يعتبر أبرزها، برزت القوى المهنية غير الأكاديمية في القطاع الصحي، مدت بعض الجمعيات العلمية أذرعها للمجتمع المهني، لكنها بقيت قاصرة عن الوفاء باحتياجتهم واستيعاب مشاركتهم، ولأن القطاع الصحي صاحب مبادرة تجاوزت التعليم العالي، أوجد حلولاً تناسبه وتقارب السياق العام للجمعيات العلمية، بداية بتأسيس ما أسماه أندية أو مجموعات تخصصية، ثم بتأسيس جمعيات، اعتبرت مهنية لكن أهدافها لا تبعد عن الجمعيات العلمية، تحت مظلة هيئته، المظلة التي حملها القطاع كثيرًا من أعبائه، هيئة التخصصات الصحية. أصبح هناك مرجعية للجمعيات العلمية في المجالات الصحية بعيداً عن الجامعات، والميزة في ذلك عدم تحكم قسم أكاديمي واحد بالجمعية العلمية ومشاركة أكبر للمهنيين.
ازداد عدد الأكاديميين والمهنيين ونمت طموحاتهم وتنافسهم وضاقوا ذرعاً بتحكم القسم الأكاديمي في جامعة واحدة بجمعيتهم فأصبحوا يبحثون المخارج من هذا العقم الإداري الدائم، فبرزت ظاهرة تفريخ الجمعيات بأشكال بعضها مضحك، مثل تغيير المسمى أو اختلاق مسمى آخر أو البحث عن مسميات فرعية ضيقة، فعندما لا تعجبنا جمعية مرجعيتها الجامعة ولا تقدم ما يطمح إليه أهل التخصص نطور جمعية أخرى بمسمى مرادف مرجعيتها هيئة التخصصات الصحية أو جامعة أخرى. وهكذا، الأمر يعود لحماس مجموعة من أهل المهنة أو التخصص، يستفيدون من سباق الجامعات وهيئة التخصصات الصحية إلى التفاخر بعدد الجمعيات التابعة لكل منهم. طبعاً يفترض أن تقرر الجمعيات العمومية لتلك الجمعيات ارتباطها ومستقبلها ولكن لأنها ليست مستقلة، كما يوهمنا تنظيمها، فإن قرارات جمعياتها العمومية لا معنى لها في هذا الشأن، أمام تحكم مرجعيتها الأم سواء الجامعات أو الهيئة...
الحجة القديمة في عدم نضوج الجمعيات العلمية هي أن نظامها يعتبر مرحليًا حتمته الظروف، لكنها حجة تستمر عقوداً رغم التغيرات والتحولات الإدارية في البلاد. استمرت أنظمة الجمعيات العلمية على عقمها المعتاد، فلا هي حققت طموحات الأكاديميين ولا طموحات المهنيين والعديد منها مجرد أرقام تفاخر بها الجامعات ويحرص عليها الأكاديمي كمنصات بروز علمية. السؤال الذي يختم عدد كلمات المقال؛ هل سيستمر ليل الجمعيات العلمية والهروب من مناقشة أوضاعها وتطويرها؟