د. صالح بن سعد اللحيدان
هذه آثار وقواعد، كنت قد رأيت قبلاً بثها لعامة طلاب العلم والمحققين وذوي الصناعة النقدية؛ لعلها تسهم بشيء من التأصيل والتقعيد؛ ذلك أن بعض الآثار تحتاج إلى نظر مكين، وزيادة استطراق لمعرفة ما يجري من الغوامض عليها من تقييد أو نسخ أو تخصيص أو بيان في عمق ذات الدلالة، وذلك من خلال نظر عموم الآثار، وقواعد الحديث عند كبار العلماء خلال تصرم القرون.
واللغة العربية أصل في هذه الدلالة على المعنى المراد، لكن من وجه قد يكون خافياً على البعض.
ومن هنا أحببت المشاركة فيما عساه يجدي، ويعيد من أراد النظر إلى كتب القروم، فأذكر شيئاً من هذا على سبيل الاقتضاب:
1 - عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
هكذا يرد عند عامة الفقهاء في المطولات وكتب الفروع، ويوردونه كذلك في المختصرات. وقد رأيت بعض الدعاة يوردونه هكذا، ولكن عند الجميع لا يفصلون القول في روايته.
قلت: هذا موجبه التفصيل ولا بد؛ فعمرو بن شعيب هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وتفصيل روايته على هذا النحو فإن كان الضمير يعود إلى جده محمد فالحديث يكون مرسلاً. وتفصيل ذلك أن محمداً لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان الضمير يعود إلى عبدالله فيكون الحديث منقطعاً؛ وذلك لأن شعيباً لم يدرك عبد الله؛ فتكون الرواية عن عمرو بن شعيب في حكم الحديث الحسن.
والمشكلة في هذا أن الكثير لا يذكر هل الحديث من الحسن لذاته أم الحسن لغيره أم أنه في حال ضعف.
2 - ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن عمر بن الخطاب (كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب، وقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون).
قلت: كان هذا عام الرمادة. وهذا الأثر رواه البخاري، وهو دال على عدم جوز التوسل بالأموات.
وهذا إجماع، وما نُقل عن البعض يحتاج إلى سند، ولم أقف عليه.
3 -جاء حديث عن معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرؤوا على موتاكم سورة يس».
قلت: رواه أبو داوود وكذا النسائي. وقال النسائي صحيح.
قلت: ليس كذلك؛ فقد أعله يحيى بن سعيد القطان، بل قال الدارقطني هو مضطرب الإسناد، وزاد بقوله: «ومجهول المتن». قلت: وهو كما قال، ولم أجد له معارضاً.
4 -جاء عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نُخرج الصدقة من الذي نعده للبيع).
قلت: هذا رواه أبو داوود. قلت كذلك: هذا الأثر لا يصح؛ لأن في سنده سليمان بن سمرة بن مهران، وهو مجهول؛ فلا يُعمل به.
5 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى..) الحديث.
قلت: رواه البيهقي وابن أبي شيبة.
قلت: الحديث صحيح، لكن علماء الأسانيد وعلماء الجرح والتعديل اختلفوا في كونه مرفوعاً. والذي عليه أهل التحقيق من كبار علماء الحديث أنه موقوف على ابن عباس دون سواه. ووقفه هنا لا يضر؛ لأنه تقرير لحكم شرعي، والصحابي لا يقول مثل هذا من عند نفسه، وما كان كذلك عن صحابي فهو صحيح بحكم المرفوع حكمًا؛ وذلك أنه مرسل صحابي.
6 -ورد عن أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها - قالت: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا من أهلّ بحج ...) الحديث قد رواه بطوله مسلم.
قلت: هذا الحديث أصل في أنواع الحج الثلاثة (التمتع والإفراد والقران).
قلت: والإهلال المراد به التلبية (لبيك اللهم لبيك). والتمتع - حسب تتبُّعي - أفضل النسك الثلاثة، والخلاف لعله لفظي.
قلت: وقد ثبت لدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر القارنين والمفردين بفسخ حجهم إلى العمرة، من لم يكن قد ساق هدياً معه، وأوجب عليهم عند انتهاء السعي للعمرة أن يحلقوا رؤوسهم، ويجعلها عمرة. وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت...) الحديث.
7 - ورد عند الترمذي وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رخص لرعاة الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين).
قلت: المقصود أنهم يجمعون بين رمي اليومين، وذلك بتقديم الرمي قبل يومه للضرورة القاضية. قلت: والواو هنا عاطفة، ولم أقف على نص صحيح يقيد هذا الأثر أو يخصصه أو ينسخه.
8 - وقفت على نص صحيح (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم).
قلت: السجود من أجل السهو له حالات، منها إذا نقص في الصلاة فيسجد قبل السلام، وإن زاد فيها فبعد السلام، وإن شك فقبل السلام.
وإن كان الشك أقوى حال الزيادة فبعد السلام وإلا فقبل.
والذي أرى أن المسألة واسعة.
9 - وورد أن (النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة). قلت: هذا الأثر قد رواه سالم، وهو ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب. وسالم من كبار التابعين. هذا النص رواه الخمسة، لكني وقفت على كلام للنسائي أنه مرسل، والدارقطني في (العلل) قال وقع في سنده اختلاف عن الإمام محمد بن شهاب الزهري، وقال البيهقي كما وقفت عليه أنه موصول السند.
والذي يظهر لي أنه مرسل، لكنه صحيح. والبيهقي قال كونه موصولاً أصح؛ لأنه من رواية سفيان بن عيينة. قلت ابن عيينه ثقة وإمام جليل، ولا يضر إرساله.
10 - رأيت عند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني والحاكم (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة). هذا من رواية أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد - رضي الله عنه -، ووقفت على أن في سنده حسيب بن عبد الله المعافري وقد وقع فيه اختلاف عند أئمة الجرح والتعديل.
قلت: الأصل عدم جواز التفريق إلا بناهض قوي متين.
وهذه إشارات ليس إلا لبعض ضرورات الاستقصاء عند الفتوى، أو الحكم القضائي، أو ما يلقيه بعض طلاب العلم.. والمسألة قد تحتاج إلى مزيد بيان.