مايا هادرلاب روائية نمساوية من مواليد العام 1961م، وُلدت في كارينثيا، وهذه المنطقة واقعة على الحدود النمساوية السولوفينية والتي أصاب شعبها على يد النازية - خلال الحرب العالمية الثانية - ما أصابهم من تنكيل وتهجير ومن فقدان للأرض واللغة والهوية، تكتب لنا هادرلاب رواية «ملاك النسيان» بسرد سلس شاعري تأخذ بأيدينا من خلاله طفلة تتقافز على أعتاب ذكريات جدّتها وأبيها لتصور عمق المعاناة وقسوتها.
وخلال رحلة هذه الطفلة مع جدتها لزيارة مناطق المعتقلات والتي أصبحت مزارات بعد الحرب يحج إليها ساكنيها السابقين حتى ينقلون ما عرفوه، وما عايشوه لأبنائهم «حتى لا يبقوا يوماً واحداً من دون ذكريات ذويهم» فنجد أن الذكريات تتداعى من معتقلات ماوتهاوزن، رافسنبروك وبريج وغيرها الكثير، ذكريات معسكرات جمعت الرجال، النساء والأطفال. ذكريات أن يصبح المرء مجرد رقم لا أكثر، ذكريات أن يتخلى الإنسان عن مشاعره وأحاسيسه وكرامته لأن المشاعر العميقة في معتقلات من هذا النوع هي أحد مؤشرات الموت.
نقرأ من خلال هذا النص شهوة الإنسان للعودة إلى الذكريات وتتبع أدق تفاصيلها، وخصوصاً ذكريات الألم، نقرأ من خلال هذا النص التباين الكبير بين البشر في التعايش مع الألم في حينه، تباين قوى الإنسان في التكيف مع أقسى وأقصى الظروف، وعلى قدرته من عدمها على الاستمرار في الحياة والتعايش مع الألم عندما يتجاوزه ويصبح مجرد ذكرى.
نجد أن الجدة والتي استحوذت على كثير من تفاصيل السرد تمثل حب الحياة بشخصيتها المحببة المتفائلة والتي قاومت بها بؤس المعتقلات، الجوع والمرض، وصنوف التعذيب، كيف أنها وبعد الاعتقال وتحرير المعسكرات علّمت الفتيات الرقص، إذ تقول «الرقص، مثلاً لا يقل أهمية عن القراءة»، هكذا قاومت الجدة، هكذا استمرت في الحياة، وعلّمت الآخرين إيجاد المعنى في الحياة، وهذا التصرف الإنساني الإبداعي والذي اتخذته الجدّة بفطرتها الخلاقة هو أحد أوجه (العلاج بالمعنى) التي أسسها العالم والطبيب النفسي فيكتور فرانكل زعيم المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي، والذي ذاق صنوف العذاب أيضاً في المعتقلات النازية.
وفي المقابل نجد هناك من يصيبه الجنون بسبب الصدمات المتتابعة والعنف المستمر، فكما أنه «في الحرب يصير المرء مثل الأرنب مطارد»، فمنهم من يستمر بعد ذلك أيضاً على هذه الحال، بل أسوأ. تطارده الكوابيس في منامه، تطارده في صحوه فيفقد الوعي بالمكان والزمان ومعنى الحياة، وبالتالي يفقد روحه وإنسانيته.
وهذه هي الصورة الأخرى التي يصورها هذا السرد المتدفق من خلال ما قد يشكله العنف، وما ترسبه الحرب في الإنسان، صورة الوالد الذي يعيش صدمة الحرب وهي الصدمة التي تحكم على الإنسان بالانغلاق داخل ماضيه فتفصله عن الحاضر برمته، لا يشعر بالحياة، ولا يطمح إليها، طبّعته الحرب بطباعها فلا يؤمن إلا بقوة الموت ولا يطمح إلا إليه، فالخوف ترك ندوباً عميقة في داخله يرى أنها لن تزول إلا بالموت.
هذه النصوص الباذخة والتي تعمقت داخل الروح الإنسانية يظهر لنا من خلالها ما يمكن أن يضيفه الأدب في نقل التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها، نكتشف من خلالها قدرة الأدب على حفظ الذاكرة الجمعية لمجتمع ما، تنتقل من خلاله صورة الجغرافيا، العادات، التقاليد، ونمط العيش ونوعية الغذاء والملبس وكثير من التفاصيل التي لم تغفل عنها هادرلاب وهي تسطر لنا هذا النص، ومن خلال شخوصها الكثيرة والذكريات المتدفقة تمثل رواية ملاك النسيان وثيقة توثق من خلالها مايا هادرلاب مصاب هذه الأرض وهذا الشعب، فكانت جديرة باستحقاق جائزة (انجبورغ باشمان) جائزة برونو كرايسكي. نقل هذا العمل إلى العربية دار المنى للنشر بترجمة «مدني قصري» وبذلك أضافت إلى المكتبة العربية إحدى روائع الأدب العالمي.